الشرق الأوسط بين الشعارات والتحولات: أزمة مستمرة أم فرصة للتغيير؟

خارطة للمنطقة المعروفة باسم "الشرق الأوسط"
خارطة للمنطقة المعروفة باسم "الشرق الأوسط"

مع اقتراب نهاية شهر رمضان لهذا العام، يشهد الشرق الأوسط تحولات سياسية عميقة تعيد رسم خريطته الجيوسياسية بعيدًا عن الحدود التي رُسمت وفق المصالح الدولية قبل وبعد الحربين العالميتين الأولى والثانية. هذه التحولات، رغم أنها تبدو في ظاهرها مستجدة، إلا أنها في جوهرها امتداد لصراعات متجذرة خلّفت وراءها أزمات معقدة، خصوصًا في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط. فالقضية الفلسطينية، والأوضاع في لبنان وسوريا، والتطورات في العراق والأردن والسعودية، كلها حلقات في سلسلة طويلة من التغيرات التي تعكس صراع النفوذ والمصالح الدولية في المنطقة.

الشعارات التي لم تغير شيئًا

على مدار عقود، رُفعت الشعارات الداعية إلى مقاومة الاحتلال الإسرائيلي والتحرر من النفوذ الأجنبي، لكنها بقيت حبرًا على ورق، لم تتجاوز المنابر السياسية والإعلامية. الخطاب القومي العربي، الذي بُني على شعارات الوحدة والاشتراكية، ظل حلمًا نظريًا لم يجد سبيله إلى التطبيق. في الواقع، كانت الدول العربية غارقة في صراعات داخلية وخارجية، ولم تكن الوحدة إلا أداة خطابية تُستخدم بحسب الحاجة السياسية لكل نظام.

ولعل أحد أبرز التناقضات التي شهدها التاريخ العربي الحديث هو التعامل المزدوج مع إسرائيل. فبينما كانت بعض الدول ترفع شعارات العداء المطلق لها، نجدها في مراحل لاحقة تُقيم معها علاقات، سواء سرًا أو علنًا. هذا التناقض لم يكن محصورًا فقط في الأنظمة السياسية، بل حتى النخب الثقافية والفكرية، التي ساهم بعضها في تطبيع الهزيمة عبر خطابات تحمل في طياتها تبريرًا للواقع الراهن أو تهوينًا منه.

إضافة إلى ذلك، لم تكن القضية الفلسطينية وحدها ضحية هذه الشعارات، بل أيضًا القوميات الأخرى التي تعايشت تاريخيًا في المنطقة، وعلى رأسها الكورد. فعلى الرغم من أن الشعارات العربية كانت تدعو إلى التحرر والعدالة، فإنها في الوقت نفسه كانت تُقصي الكورد وتتعامل معهم بعقلية الهيمنة القومية، متجاهلةً حقوقهم المشروعة. وقد كان النظام السابق في العراق نموذجًا صارخًا لهذه المفارقة، حيث رفع شعارات العروبة والوحدة، بينما مارس سياسات القمع والإقصاء ضد الكورد، وهي سياسات لا تزال آثارها قائمة إلى اليوم.

التحالفات المتبدلة: صراع بلا رؤية

من السمات البارزة للمشهد السياسي الراهن في المنطقة هو عدم استقرار التحالفات بين الدول العربية والإقليمية. فقد أصبحت هذه التحالفات أشبه برقعة شطرنج تتحرك فيها القطع وفقًا لموازين القوى الدولية وليس وفق رؤية استراتيجية تخدم مصالح الشعوب. فالدولة التي كانت تُصنَّف كعدو اليوم، قد تصبح حليفًا غدًا والعكس صحيح، وذلك وفق مقتضيات المصالح السياسية والاقتصادية.

هذا التبدّل المستمر في المواقف يعكس غياب مشروع سياسي متكامل يمكن أن يكون قاعدة لبناء مستقبل أكثر استقرارًا. فمعظم الدول العربية تفتقر إلى رؤية واضحة، وتدور في دوامة ردود الفعل أكثر من كونها فاعلًا مؤثرًا في الساحة الدولية. وهذا ما جعل القرار العربي مرتهنًا باستمرار للإرادة الدولية، التي تعيد رسم خرائط النفوذ وفق معطيات لا تخدم سوى القوى الكبرى.

الشعوب بين الوعي والتضليل

في خضم هذه الفوضى السياسية، تبقى الشعوب العربية عالقة بين خطابين متناقضين: الأول، خطاب شعبوي يعد بالتحرير والتغيير دون أن يقدم حلولًا حقيقية، والثاني، خطاب واقعي لكنه يفتقر إلى القدرة على إحداث تحول فعلي في المشهد السياسي. وبين هذين الخطابين، تظل الشعوب مخدوعة بتصوّرات لا تعكس حقيقة المعادلة السياسية، ما يجعلها غير قادرة على التحرك الفاعل نحو التغيير.

لقد شهد القرن الماضي العديد من اللحظات التي بدت وكأنها فرصة للنهضة العربية، لكن في كل مرة، كانت هذه الفرص تُجهَض بسبب غياب الوعي السياسي الحقيقي، وسيطرة المصالح الضيقة على المشهد. وحتى اليوم، لا تزال المنطقة تدور في نفس الحلقة المفرغة، حيث تتكرر الأخطاء ذاتها، مع اختلاف الوجوه والمسميات.

هل من سبيل للخروج من الأزمة؟

السؤال الذي يفرض نفسه في ظل هذه التحولات: هل هناك أمل في تجاوز هذه الدوامة؟ أم أن الشرق الأوسط محكوم بإعادة إنتاج نفس الأزمات والصراعات؟

الحل لا يكمن في الشعارات، بل في بناء رؤية سياسية تستند إلى الواقع وليس الأيديولوجيات المتكلسة. وهذا يتطلب أن تدرك الشعوب العربية أن التغيير لا يكون فقط عبر الاحتجاج أو التنديد، بل من خلال العمل على بناء مؤسسات قوية، وتطوير ثقافة سياسية قادرة على مواجهة تحديات العصر.

كما أن تجاوز هذه الأزمات يستوجب مراجعة حقيقية للعلاقات العربية–العربية، بحيث يتم الانتقال من عقلية الصراع الداخلي إلى عقلية التعاون والشراكة في مواجهة التحديات المشتركة. فطالما بقيت الدول العربية غارقة في صراعاتها الداخلية، فإنها ستظل رهينة للنفوذ الأجنبي، ولن تتمكن من تحقيق استقلالها السياسي والاقتصادي الفعلي.

الخاتمة

المشهد الحالي في الشرق الأوسط هو انعكاس لصراعات لم تحسم منذ عقود، وتحولات قد تعيد رسم الخريطة وفق مصالح جديدة، لكن من دون أن تغير جوهر الأزمة. وبينما يستمر الصراع على النفوذ، تظل الشعوب تدور في حلقة مفرغة، بين وعود غير محققة، وأزمات لا تنتهي.

يبقى الأمل معلقًا بقدرة المجتمعات على إدراك الواقع بعيدًا عن الشعارات الزائفة، والتحرك وفق رؤية واضحة تستند إلى الوعي السياسي الحقيقي، وليس إلى الأمنيات. فالتاريخ لا يرحم الأمم التي تستمر في خداع نفسها، والعالم لا ينتظر من لا يستطيع مواكبة متغيراته.