
د.ميرزاد حاجم
محاضر في جامعة ديميدف الحكومية الروسية
الشرق الأوسط الجديد والسيوف الخشبية: صراع الهويات وتضاريس التحولات

الشرق الأوسط: مسرح التاريخ والصراعات
في قلب العالم، حيث تلتقي قارات وتتصادم حضارات، تقف منطقة الشرق الأوسط شاهدةً على تحولاتٍ جيوسياسية وديموغرافية معقدة. هذه المنطقة، التي تُوصف بأنها "مهد الحضارات"، تحولت إلى ساحةٍ لصراع الهويات بين ماضيٍ يحمل في طياته "سيوفاً خشبية" رمزية—تمثل الحروب التقليدية والانقسامات الموروثة—وحاضرٍ يلوح فيه مشروع "الشرق الأوسط الجديد"، الذي يعد بإعادة تشكيل الخريطة السياسية والاجتماعية وفق رؤى جديدة. لكن هل يُمكن لهذا المشروع أن يمحو ندوب الماضي، أم أنه سيفتح جراحاً أعمق؟
الحربان العالميتان: الزلزال الذي أعاد تشكيل المنطقة
شكلت الحربان العالميتان (1914–1918 و1939–1945) نقطة تحولٍ مصيرية في تاريخ الشرق الأوسط. فبعد قرون من الهيمنة العثمانية، أدت الحرب العالمية الأولى إلى تفكك الإمبراطورية بموجب معاهدة **سيفر (1920)**، التي قسمت أراضيها بين القوى البريطانية والفرنسية عبر اتفاقية **سايكس-بيكو (1916)**. أما الحرب العالمية الثانية، فعمقت التبعية السياسية للمنطقة، حيث تحولت دول مثل العراق ومصر إلى ساحاتٍ للمناورات بين الحلفاء والمحور، مما أرسى دعائم نظامٍ إقليمي هش، قائم على حدودٍ مصطنعة لم تراعِ التنوع العرقي والمذهبي.
ونشأت دول قومية جديدة مثل سوريا و لبنان والعراق، لكن حدودها لم تراعِ التنوع العرقي والمذهبي. على سبيل المثال، جُزّئ الشعب الكردي بين أربع دول (تركيا، العراق، سوريا، إيران)، بينما وُضعت مجتمعات سنية وشيعية ومسيحية تحت سقف دولة واحدة دون آليات للتعايش. هذا التقسيم خلق كيانات هشة، سرعان ما انهارت تحت وطأة الانقلابات العسكرية والاستبداد، كما حدث في العراق عام 1958 مع سقوط الملكية، وفي سوريا مع صعود حزب البعث عام 1963.و الحرب الأهلية في لبنان.
وعد بلفور: الشرارة التي أشعلت صراعاً مستمراً
لا يمكن فصل مسار الشرق الأوسط عن وعد بلفور (1917)، الذي منح اليهود حق إقامة "وطن قومي" في فلسطين. هذا الوعد، الذي كان جزءاً من سياسة بريطانيا التقسيمية، زرع بذور الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، الذي تحول إلى قضية مركزية تعكس تداخل العوامل الدينية والسياسية والدولية.
تقسيمات ما بعد الحرب.. حدود من دم
لم تكن الحدود التي رسمتها القوى الاستعمارية مجرد خطوطٍ على الخريطة، بل حواجز فصلت بين مجتمعات متجانسة ثقافياً. ففي العراق، مثلاً، جمعت الحدود بين سنة وشيعة وأكراد تحت هوية وطنية مفروضة، بينما قسمت سوريا الكبرى إلى كياناتٍ متنازعة. هذه التقسيمات، التي أُطلق عليها "نظام سايكس-بيكو"، خلقت دولاً ضعيفة الهوية، سهلة الانهيار تحت ضغط الانقسامات الداخلية.
الصراع الأيديولوجي بين القومية والطائفية
في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، سيطرت الأيديولوجيات القومية والاشتراكية على المشهد، متجسدة في شخصيات مثل جمال عبد الناصر، الذي دعا إلى الوحدة العربية ومقاومة الاستعمار. لكن هزيمة 1967 أمام إسرائيل كشفت ضعف هذه المشاريع، مما فتح الباب لصعود الإسلام السياسي كبديل هوياتي، بدءاً من الثورة الإيرانية (1979) وصولاً إلى حركات مثل الإخوان المسلمين وحماس. هذا التحول أدى إلى صراع داخلي بين التيارات العلمانية والدينية، تجلى في أحداث مثل الحرب الأهلية الجزائرية (1991-2002)
في منتصف القرن العشرين، برزت تيارات قومية وعلمانية، مثل **حزب البعث** في سوريا والعراق، سعياً لخلق هوية عربية موحدة تتجاوز الانقسامات المذهبية. لكن هذه المشاريع فشلت في تحقيق الاستقرار، وتحولت إلى أنظمة استبدادية قمعت الأقليات، كما حدث في مجزرة **حلبجة (1988) و الأنفال ** ضد الأكراد. في المقابل، شهدت السبعينيات والثمانينيات صعوداً للتيارات الإسلامية كرد فعل على الفشل القومي، مما عمق الاستقطاب بين مشروعين: أحدهما يتبنى الهوية الدينية، والآخر يسعى إلى حداثة علمانية.
الأحزاب العنصرية ومآلات التطرف
لم تكن أحزاب مثل البعث مجرد حركات قومية، بل تبنت أيديولوجيات إقصائية. ففي العراق، استخدم النظام السابق مصطلحات مثل "التطهير العرقي" ضد الشيعة والأكراد، بينما تحالفت أنظمةٌ أخرى مع جماعات متطرفة لتحقيق مكاسب سياسية، كما في دعم بعض الدول الخليجية للمجاهدين الأفغان خلال الحرب السوفيتية، مما مهّد لظهور تنظيمات مثل **القاعدة** و**داعش**..أما في العصر الحديث، فظهرت تنظيمات مثل داعش و النصرة، التي استخدمت الخطاب الطائفي لتبرير جرائمها، محولة مناطق في العراق وسوريا إلى ساحات لمذابح مذهبية
اتفاقيات تاريخية: جراح لم تندمل
لا تزال الاتفاقيات الدولية التي أعقبت الحروب العالمية تلقي بظلالها على المنطقة:
- معاهدة لوزان (1923): ألغت معاهدة سيفر، وأقرت بحدود تركيا الحديثة على حساب الأراضي الكردية .
- اتفاقية سيفر (1920): حاولت تقسيم الأناضول، مما أشعل حرب الاستقلال التركية.
- وعد بلفور: مثل بداية النكبة الفلسطينية، التي تجسدت في تهجير مئات الآلاف عام 1948.
هذه الاتفاقيات لم تُحل أزماتٍ بل حولتها إلى صراعاتٍ مجمدة، تتفجر بين الحين والآخر، كما في الحروب العربية-الإسرائيلية المتكررة.
حرب المذاهب من التنافس إلى التطهير
تحولت الاختلافات المذهبية في الشرق الأوسط إلى أسلحة سياسية. ففي العراق، تحول الصراع بين السنة والشيعة بعد تحرير العراق (2003) إلى حربٍ أهلية طاحنة، بينما استغل النظام السوري الانقسامات الطائفية لإطالة أمد الحرب الأهلية. حتى المسيحيون، الذين كانوا جزءاً من النسيج الاجتماعي، تعرضوا لتهجير ممنهج، كما حدث للمسيحيين الآشوريين في سوريا والعراق.
في اليمن، تحول الصراع بين الحوثيين والحكومة إلى حرب بالوكالة بين السعودية (السنة) وإيران (الشيعة)
مشكلة الأقليات: الأكراد نموذجاً
تمثل قضية الأكراد إحدى أبرز إشكاليات الأقليات في المنطقة. فبعد وعودٍ بتأسيس دولة كردية في معاهدة سيفر، تم تقسيمهم بين أربع دول (تركيا، إيران، العراق، سوريا). ورغم حصول إقليم كردستان العراق على حكم ذاتي بعد 2003، إلا أن الأحلام بدولة مستقلة تواجه رفضاً دولياً وإقليمياً، خوفاً من تفكك الدول القائمة. أما اليهود، فقد شهدوا تحولاً جذرياً من كونهم أقلية متجذرة في المنطقة إلى سكان دولة إسرائيل، التي أصبحت نقطة جذب للصراعات الإقليمية.
الشرق الأوسط الجديد: مشروع إعادة التشكيل دول على قياس إسرائيل او اصغر
ظهر مصطلح "الشرق الأوسط الجديد" في الخطاب السياسي الغربي بعد تحرير العراق 2003، كجزء من رؤيةٍ تهدف إلى إعادة هندسة المنطقة وفق معايير ديمقراطية واقتصادية. لكن الكثيرين يرون في هذا المشروع استمراراً للهندسة الاستعمارية، خاصةً مع ارتباطه بمخططات مثل **مخطط برنارد لويس**، الذي اقترح في تسعينيات القرن الماضي تقسيم الدول إلى كيانات عرقية ومذهبية صغيرة، بحجة تحقيق الاستقرار عبر تجانس الهويات.
مخطط برنارد لويس الفوضى الخلاقة؟
اقترح المستشرق البريطاني-الأمريكي برنارد لويس تقسيم دول مثل العراق وسوريا إلى دويلات (سنية، شيعية، كردية). ورغم أن لويس نفى تبنيه لهذا المخطط علناً، إلا أن كثيراً من المحللين يرون أن فكرته تجسدت في سياسات التدخل الغربي، التي أدت إلى تفكيك الدول المركزية، كما حدث في ليبيا بعد 2011، واليمن وسوريا بعد2015. النقاد يعتبرون هذه الرؤية وصمةً استعمارية جديدة، تكرس الانقسامات وتُعيد إنتاج العنف.
مستقبل المنطقة بين فكي التغيير الدولي
في ظل المتغيرات الدولية الحالية، مثل صعود الصين وروسيا كفاعلين جدد في المنطقة، وتنامي النفوذ التركي والإيراني، وتوقيع اتفاقيات التطبيع مثل **إبراهيم (2020)**، يبدو مستقبل الشرق الأوسط مرتبطاً بثلاثة سيناريوهات محتملة:
1. استمرار الفوضى: مع تعمق التدخلات الخارجية وتفكك الدول.
2. التقسيم الطائفي: بتشجيع من قوى إقليمية ودولية.
3. التكامل الإقليمي: عبر مشاريع اقتصادية وسياسية تعتمد على الموارد المشتركة، مثل مبادرة "طريق الحرير" الصينية.
هل من أمل ؟!
رغم مرارة التاريخ، فإن مستقبل الشرق الأوسط ليس محكوماً بالحتمية. فالتجارب الأخيرة، مثل نجاح الإمارات في بناء نموذج تسامح ديني، وتجربة كردستان العراق في تحقيق استقرار نسبي، تثبت أن التعايش ممكن. لكن تحقيق ذلك يتطلب شرطاً جوهرياً: التخلي عن منطق "السيوف الخشبية"—التي تمثل ثقافة الحرب والاستبعاد—وتبني رؤيةٍ تعترف بالتنوع كقوة لا كعبء. ربما يكون "الشرق الأوسط الجديد" ممكناً، لكن ليس عبر التقسيم، بل عبر حوارٍ يضمن حقوق الجميع، ويحوّل التنوع من سببٍ للصراع إلى جسرٍ للسلام.