عقلية الشوفينية السياسية وأوهام المركز: أزمة الدولة العراقية الحديثة

رغم مرور أكثر من عقدين على سقوط النظام الديكتاتوري، لا تزال شريحة واسعة من النخبة السياسية في بغداد تُدار بعقلية مركزية متسلطة، لا تؤمن بمبادئ المواطنة المتساوية، ولا تلتزم بروح الدستور الذي أقرّ نظاماً لامركزياً يضمن الشراكة والتوازن والتوافق.
وهذه العقلية ليست طارئة، بل امتداد لموروث تاريخي تعاقبت عليه أنظمة حكم مطلقة، جعلت من المركز مرجعية واحدة و”مواطناً أول” يتحكم بمصير الجميع. فبعض الأطراف السياسية ما زالت ترى في أي تحرك أو مطالبة من الأقاليم، وعلى رأسها إقليم كوردستان، تهديداً لسيطرتها على الثروة والقرار.
ملف الثروات الوطنية… بين التهريب والاتهام
من آخر تجليات هذه الذهنية ما صدر عن قيس الخزعلي، الذي اتهم إقليم كوردستان بتهريب النفط يوميًا، متناسياً أن عمليات التهريب الحقيقية، المنظمة والمحمية، تجري في الجنوب ووسط العراق منذ 2003، وتشارك بها أطراف متنفذة وفصائل مسلحة.
حتى رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني حاول وضع حد لها، لكنه اصطدم بجدار قوى متنفذة من ضمنها حركة الخزعلي نفسه، التي حالت دون بسط سلطة الدولة على مواردها.
والازدواجية تتجلى أيضًا حين يُهاجم الإقليم على تعاقداته النفطية والغازية، رغم أنها قانونية، تُبرم مع شركات عالمية وفق ضوابط الدستور. فيما صمت الجميع عن الهجمات بالصواريخ والطائرات المسيّرة التي استهدفت كوردستان، دون أي سند قانوني أو “عقود غاز” كما يزعمون.
أزمة في بنية الدولة وفهم السلطة
جزء من المشكلة يكمن في تصور الدولة نفسها؛ حيث ترى الطبقة السياسية المركزية أن الحكم والقرار والثروة يجب أن تُحتكر في بغداد، ويُدار عبر منظومة محسوبية ومصالح ضيقة، وليس باعتبارها كياناً تعاقدياً تعددياً يضمن حقوق الجميع.
والأخطر أن هذه الثقافة السياسية الريعية جعلت من المركز خزّانًا للثروة والسلطة والامتيازات، وحولت المواطنة المتساوية إلى تهديد لمنظومة الامتيازات هذه. فاللامركزية والديمقراطية التوافقية بنظرهم ليست إلا وسيلة لفقدان الهيمنة.
الخاتمة: دعوة لتحرر ذهني
لقد أثبتت تجارب التاريخ أن الفكر الشوفيني، سواء كان قوميًا أو طائفيًا أو دينيًا، مصيره الفشل. لأن الدول لا تُبنى إلا بالشراكة والاعتراف بالآخر، ولا تستقر إلا حين تُدار بالتوازن والتعايش.
إقليم كوردستان سيبقى ثابتًا على حقه الدستوري، مؤمنًا بالتعددية وبحقه في إدارة شؤونه، بعيدًا عن منطق الاتهام والتخوين.
وما لم تحدث قطيعة ذهنية حقيقية مع العقلية المركزية المتعالية، فلن ينعم العراق باستقرار سياسي ولا اقتصادي. فالدولة لا تُدار من فوق، ولا بمنطق الأغلبية العددية، بل بحكمة التعدد واحترام الدستور الذي توافق عليه الجميع.