بين الجاهل والتجهيل… حين يتحول الجهل إلى مشروع سياسي

بين الجاهل والتجهيل… حين يتحول الجهل إلى مشروع سياسي
بين الجاهل والتجهيل… حين يتحول الجهل إلى مشروع سياسي

الجاهل، في صورته الأولى، قد يكون ضحية بريئة لظروف خارجة عن إرادته. يولد في بيئة معزولة، ينشأ في عائلة فقيرة، لا يطرق باب مدرسة، ولا يسمع حديث العلم. يعيش ويموت جاهلًا، دون أن يتاح له يومًا خيار آخر. إنه جهل طبيعي، بلا مؤامرة، بلا تخطيط، نتاج واقع قاسٍ يتكرر في مجتمعات كثيرة.

لكن الوجه الأخطر للجهل لا يكمن في هذه الصورة الساذجة، بل في صيغته المصنوعة، المُدبَّرة بعناية، حين يصبح الجهل أداة بيد سلطة أو نظام أو حتى فرد، ويُستخدم كأداة تجهيل. هنا لا نتحدث عن إنسان فاته التعليم، بل عن مشروعٍ منظمٍ لطمس المعرفة، ومحو الوعي، وتوجيه العقول في مسارات مُحددة.

التجهيل ليس حالة، بل فعل. فعل مقصود له أدواته وغاياته. وقد يُمارَس على فرد، أو يُصَب على مجتمع بأكمله. تُستخدم فيه المدرسة والإعلام، ويُعبَّد له الطريق بالقوانين، وتُجند فيه المؤسسات. التجهيل يخلق جهلًا، لكنه جهل من نوع آخر: جهلٌ مستهدف، مُفصَّل على مقاس السياسة، يُربّي الخضوع، ويغتال النقد، ويمنع الأسئلة.

في حالة الجاهل العادي، قد يقاتل من أجل المعرفة إن وجد الفرصة. أما في حالة التجهيل، فيُربّى الإنسان على كراهية المعرفة، ويُعلَّم أن الجهل هو الأمان، وأن الطاعة فضيلة، وأن التفكير ترفٌ خطير.

ولذلك فالفارق بين الجاهل والمتجهَّل عليه، يشبه الفارق بين المريض الطبيعي والمريض الذي تعمد الطبيب إصابته. الأول قد يُشفى، أما الثاني، فقد يموت وهو لا يعلم أنه كان ضحية تجهيل ممنهج.

في مؤسسات الدولة، قد لا يكون الجهل عيبًا بقدر ما يكون مطلوبًا أحيانًا. تجهيل الموظف يجعل منه أداة طيعة. لا يعرف حقوقه، ولا يطالب بها. لا يفقه القوانين، ولا يجرؤ على نقدها. وفي عالم السياسة، قد يُمارس التجهيل من أعلى الهرم إلى أسفله، لتسهيل السيطرة على الشعوب، وصناعة الولاء الأعمى، وتدجين النخب.

الأدهى من ذلك، أن التجهيل قد لا يُمارَس بصيغته الفجّة، بل يأخذ أشكالًا ناعمة، مثل الإهمال المتعمّد، أو التجاهل الممنهج، أو الإقصاء الرمزي. يُمكن تجهيل شخص بتهميشه، بإسكاته، بعدم دعوته للمشاركة. حين يُغيب صوت المثقف أو المفكر أو السياسي النزيه، ويُقدَّم بدله صوتٌ أجوف، فهذا تجهيل. وعندما يُجعل الصمت حكمة، والتملق فضيلة، والتطبيل مهارة سياسية، فاعلم أن التجهيل قد بلغ ذروته.

تجهيل المجتمع يبدأ من الفرد، لكنه لا يتوقف عنده. وقد تكون البداية باستهداف العقول النشطة: كاتبٌ يُسكت، أستاذ يُهمَّش، طالب يُخنق فضوله. ثم تتوسَّع الدائرة لتشمل المناهج، والخطاب الإعلامي، والممارسة الإدارية، والوعي الجمعي.

في بعض الأحيان، يموت الإنسان قهرًا لا جهلًا. حين يُمنع من الكلام، من الفعل، من الوجود حتى. يُدفن حيًّا في صمت الآخرين، في تواطؤ المؤسسات، في التلميحات المُهينة، في الإيحاءات الخفية. وهذا ليس جهلًا، بل شكل قاتل من أشكال التجهيل.

الفرق بين الجاهل والمتجهَّل عليه، إذن، هو أن الأول قد يُعذر، وربما يُنقذ. أما الثاني، فهو مشروع سياسي طويل الأمد، هدفه أن يُنتج أجيالًا لا تعرف، ولا تسأل، ولا تعترض. وإن كان الجهل قَدَرًا، فإن التجهيل خيانة.

أخطر ما في الأمر أن مشروع التجهيل غالبًا ما يقوده من يمتلك أدوات القوة: السلطة، المال، المنبر، القانون، الإعلام. إنه جهد مدروس، يُمارَس بهدوء، لكن أثره مدمّر، وخرابه يتسلّل دون ضجيج.

النجاة من الجهل ممكنة بالتعليم والفرص. أما الخروج من مشروع التجهيل، فصراعٌ طويل يحتاج إلى وعي، وإلى قادة لا يخافون من وعي شعوبهم، بل يؤمنون به