من الرايخ الثالث إلى دمشق و بغداد.. هروب النازيين المتخفين وتأثيرهم الخفي على السياسات الإقليمية

من الرايخ الثالث إلى دمشق و بغداد.. هروب النازيين المتخفين وتأثيرهم الخفي على السياسات الإقليمية
من الرايخ الثالث إلى دمشق و بغداد.. هروب النازيين المتخفين وتأثيرهم الخفي على السياسات الإقليمية

في ساحة المدرسة السورية، كنا نحن الأطفال نقف يوميًا نحيي العلم والقائد بتحية تشبه تحية هتلر، وننشد لحزب البعث قبل أن ننشد للدولة. كانت هذه المراسم، التي بدت آنذاك عادية، تحمل في طياتها إرثًا أيديولوجيًا أكثر تعقيدًا وظلامًا. كطفل كوردي، لم يكن مسموحًا لي أن أتكلم بلغتي الأم داخل الصف، ولا أن أحتفي بهويتي؛ كانت العربية مفروضة، لا بوصفها لغة فقط، بل كهوية قومية بديلة، تُفرض تحت قناع الوحدة القومية. لاحقًا أدركت أن النظام الذي نشأت فيه لم يكن اشتراكيًا كما يدّعي، بل أقرب إلى النازية والفاشية، من حيث القمع والسيطرة والإقصاء.

هذا التشابه في الممارسات القمعية لم يكن محض مصادفة. فمع انتهاء الحرب العالمية الثانية وهزيمة ألمانيا النازية عام 1945، فرّ العديد من الضباط النازيين من أوروبا لتجنب المحاكمات. لم يكن هروبهم مجرد حالات فردية، بل تم غالبًا عبر شبكات منظمة ومعقدة عُرفت لاحقًا باسم "خطوط الفئران" (Ratlines)، التي سهلت انتقالهم إلى ملاذات آمنة بعيدًا عن متناول الحلفاء (Aarons and Loftus, 1991). اعتمدت آليات هروب النازيين على عدة طرق أساسية، كانت أبرزها استخدام وثائق مزورة وهويات زائفة (Levy, 2002). كما لعبت بعض الكيانات داخل الكنيسة الكاثوليكية دورًا رئيسيًا في تسهيل هروبهم، مدفوعة بدوافع مختلفة كالمعتقدات السياسية أو معاداة السامية المتجذرة في بعض الأوساط. أبرز هذه الجهات كانت "دير سان جيرولامو" في روما بقيادة الأسقف ألويس هودال، المعروف بتعاطفه مع النازية (Aarons and Loftus, 1991). تُعد "خطوط الفئران" العمود الفقري لعمليات الهروب، حيث كانت تُدار بواسطة متعاطفين نازيين سابقين أو جماعات يمينية متطرفة، وكانت توفر المأوى والوثائق وترتيبات السفر.

من النقاط الحساسة في تاريخ هذه الفترة هو الدور المزدوج لبعض القوى الدولية، أو على الأقل غض طرفها عن عمليات الهروب هذه. لم تكن هذه الصفقات بالضرورة "مع قوات التحالف" بشكل مباشر، بل كانت في الغالب عبر شبكات سرية ساعدت هؤلاء النازيين على الفرار من العدالة، أحيانًا بمساعدة شخصيات أو مؤسسات معينة. في بعض الحالات، يُعتقد أن بعض أجهزة المخابرات، خاصة خلال فترة الحرب الباردة، قد غضت الطرف عن هروب بعضهم أو حتى استعانت بهم (Breitman and Goda, 2002). كانت الدوافع وراء ذلك معقدة، شملت مكافحة الشيوعية، حيث اعتبرت بعض أجهزة المخابرات الغربية أن الخبرة الأيديولوجية والعسكرية للنازيين السابقين قد تكون مفيدة في مواجهة التهديد الشيوعي (Breitman and Goda, 2002). وثائق الاستخبارات البريطانية والأمريكية المفرج عنها – كما نشرها أرني ماير – تذكر تعاونًا ضمنيًا بين عناصر نازية فارّة وبعض أنظمة الشرق الأوسط في إطار مواجهة الشيوعية والتغلغل السوفيتي (Meyer, 2004). توزع هؤلاء الفارين على مناطق مختلفة من العالم، لكن الوجهات النهائية تركزت في مناطق معينة توفر لهم الأمان النسبي والفرص الجديدة، خاصة أمريكا اللاتينية وسوريا في الشرق الأوسط.

تُعد سوريا إحدى الوجهات البارزة التي استقطبت عددًا من الضباط والمسؤولين النازيين الفارين. لم يكن وجودهم مجرد مصادفة، بل كان غالبًا نتيجة لتوافق مصالح معينة بين هؤلاء الفارين والأنظمة السورية المتعاقبة في فترة ما بعد الاستقلال. أبرز هؤلاء كان ألويس برونر (Alois Brunner)، الضابط النازي الكبير ومساعد أدولف أيخمان، والمنفذ الرئيسي للهولوكوست (Levy, 2002). بعد الحرب، تمكن من الفرار إلى سوريا وعاش هناك تحت حماية النظام السوري لعقود، متنكرًا باسم "جورج فيشر" (Segev, 2010; Cattori, 2000). ورغم المحاولات الدولية المتكررة للقبض عليه ومحاكمته، لم يتم تسليمه أبدًا، ويُعتقد أنه توفي في سوريا في تسعينيات القرن الماضي أو أوائل الألفية الجديدة.

لم يأت النازيون الهاربون إلى سوريا لمجرد الاختباء. ففي فترة ما بعد الاستقلال، خاصة بعد انقلاب حزب البعث في الستينيات، كانت سوريا تسعى لتعزيز مؤسساتها العسكرية والأمنية. هنا، برزت الخبرة العسكرية والأمنية للضباط النازيين السابقين كعنصر جذاب. يُزعم أن ألويس برونر وغيره عملوا مستشارين لأجهزة المخابرات السورية. تشير شهادات وتقارير من مصادر موثوقة، مثل تحقيقات الصحفية الفرنسية سيلفيا كاتوري وتقارير مركز سيمون فيزنتال، إلى أن برونر تحديدًا كان له دور في تدريب ضباط في الأمن السياسي والأمن العسكري السوري على أساليب التعذيب والمراقبة والاستجواب، وكان له دور فعّال في تطوير الأجهزة الأمنية السورية (Cattori, 2000; Simon Wiesenthal Center, various reports). هذه الخبرات كانت ذات قيمة للأنظمة التي كانت تسعى لترسيخ سلطتها ومواجهة التهديدات الداخلية والخارجية.

إن تحديد التأثير المباشر والعميق للضباط النازيين السابقين على سياسات حزب البعث يتطلب بحثًا دقيقًا. من المرجح أن التأثير الأكبر كان في تطوير وتقوية الأجهزة الأمنية السورية، مما ساهم في بناء مؤسسات قمعية مستوحاة من جهاز الغيستابو الألماني (Studies on Syrian Intelligence History). من حيث الخلفية الأيديولوجية، فقد كانت الفكرة العروبية في نسختها البعثية تتقاطع بشكل لافت مع أطروحات القومية المتطرفة الأوروبية: تمجيد الأمة، إقصاء الأقليات، مركزية الزعيم، وفرض الهوية بالقوة. هذه السردية لم تكن صدفة تاريخية، بل نتاج تقاطع شبكات فكرية وسياسية. بينما وجد بعض منظّري حزب البعث الأوائل، مثل ميشيل عفلق، في القومية العربية فكرة تحررية، فإن مسار الحزب بعد وصوله للسلطة تبنى ممارسات أمنية وسياسية تتماشى مع الشمولية. وجود أفراد ذوي خلفية نازية قد يكون قد عزز من هذا التوجه. إذا كانت التقارير عن دورهم في تدريب أجهزة المخابرات على أساليب التعذيب صحيحة، فهذا يشير إلى مساهمة محتملة في ترسيخ ثقافة القمع داخل الأجهزة الأمنية السورية، والتي استمرت لعقود (Cattori, 2000; Simon Wiesenthal Center, various reports).

شكل وجود مجرمي الحرب النازيين في الشرق الأوسط، وخاصةً في سوريا، دافعًا قويًا لدولة إسرائيل الفتية والأجهزة الاستخباراتية التابعة لها، وعلى رأسها الموساد (Mossad). بالنسبة لإسرائيل، لم تكن مطاردة هؤلاء مجرد مسألة عدالة قانونية، بل كانت جزءًا لا يتجزأ من مبدأ "تذكر ولن ننسى" الذي تبناه الناجون من الهولوكوست والدولة اليهودية. كانت الملاحقة ضرورية لتحقيق العدالة لملايين الضحايا (Bazyler, 2017)، وحفظ الذاكرة التاريخية (Segev, 2010)، ومنع تكرار الجرائم. لعب الموساد الإسرائيلي دورًا محوريًا في عمليات مطاردة النازيين الهاربين، أبرزها عملية أيخمان (Operation Eichmann)، التي أدت إلى خطف أدولف أيخمان من الأرجنتين عام 1960 ومحاكمته في إسرائيل (Segev, 2010). أما تتبع برونر في سوريا فقد كان هدفًا رئيسيًا للموساد والعديد من المنظمات الدولية. في عامي 1961 و1980، أرسل الموساد طرودًا مفخخة إلى برونر، مما أدى إلى فقدانه لعين وأصابع، لكنه نجا وعاش في سوريا لعقود أخرى (Segev, 2010; Mearsheimer, 2007). شهادات متقاطعة تؤكد أن النظام السوري رفض باستمرار المطالب الفرنسية والألمانية لتسليمه، ما يطرح سؤالاً سياسيًا وأخلاقيًا حول طبيعة هذا التواطؤ. واجهت جهود الموساد في سوريا تحديات فريدة ومعقدة، أهمها طبيعة النظام السوري المغلق والمعادي لإسرائيل، وحماية النظام الواضحة لبرونر، وندرة المعلومات الموثقة عن أماكن اختبائه.

تُعد ظاهرة هروب الضباط والمسؤولين النازيين بعد الحرب العالمية الثانية، واستقرار بعضهم في دول مثل سوريا، فصلًا معقدًا ومظلمًا في التاريخ الحديث. لقد كشفت "خطوط الفئران" عن شبكات دعم واسعة، وأحيانًا عن تواطؤ أو غض طرف من قبل بعض القوى الدولية، مدفوعًا بمصالح سياسية وجيوسياسية خاصة خلال فترة الحرب الباردة (Breitman and Goda, 2002). لقد أظهر وجود شخصيات مثل ألويس برونر في سوريا، وعلاقتهم المشبوهة بالأنظمة المحلية، كيف يمكن للخبرات القمعية أن تنتقل وتؤثر على هياكل الدول الناشئة. إن البنية الأمنية والسياسية في سوريا، خاصة منذ سبعينيات القرن العشرين، تبدو وكأنها استمرار لتلك الرؤية الشمولية؛ فالشعب يُراقَب، والأقليات تُضطهد، وكل من يرفع صوته يُقمع باسم الوحدة الوطنية والممانعة.

تأثير هذا الإرث لم يقتصر على سوريا؛ ففي العراق، تحوّلت هذه الرؤى إلى كوارث إنسانية، كما في حملات الأنفال بقيادة صدام حسين، حيث تم استخدام أسلحة كيماوية ضد الكورد في حلبجة، ودفن آلاف المدنيين أحياء في صحارى الجنوب (Human Rights Watch, 1993; Iraqi High Tribunal). هذه الممارسات تُظهر أثر هذا الإرث النازي، سواء من حيث التنظيم الأمني أو الأيديولوجيا القومية المتطرفة التي وجدت أرضًا خصبة في بعض مناطق المنطقة. في المقابل، تؤكد مطاردة إسرائيل المستمرة لمجرمي الحرب النازيين التزامًا عميقًا بالعدالة وحفظ الذاكرة (Bazyler, 2017). ورغم أن العديد من هؤلاء الهاربين ماتوا بسلام دون مواجهة العدالة، فإن الجهود المبذولة لملاحقتهم تظل شهادة على السعي العالمي لتحقيق المساءلة.

هذه الظاهرة تثير العديد من التساؤلات الأخلاقية والتاريخية حول العدالة والمساءلة بعد الحروب، وتُظهر مدى تعقيد المصالح السياسية التي أحيانًا تتجاوز ملاحقة مجرمي الحرب. إنها قصة تذكير بأن آثار الصراعات الكبرى تمتد لسنوات وعقود، وأن الأشباح الماضية قد تستمر في التأثير على الحاضر والمستقبل. هكذا، لا يبدو أن تشابه تحية الطابور المدرسي مع التحية النازية كان محض مصادفة. بل هو رمز صغير يعكس تشابكًا أعمق في البنية السياسية والأمنية والثقافية، بين إرث النازية والنظم الاستبدادية في منطقتنا. ومع أن الوثائق المباشرة عن دور برونر وغيره قد تكون نادرة، فإن الشهادات، والسلوكيات، والبنية المؤسسية، تقدم مجتمعة صورة واضحة: لم تهرب النازية من العدالة فقط، بل أُعيد تدويرها في مؤسسات أنظمة عربية، وجدت فيها أداة لضبط شعوبها وإخماد تنوعها. لذلك، فإن فهم هذا التاريخ ليس ترفًا، بل ضرورة. لأنه من دون فهم كيفية تسلل هذه الأفكار عبر الحدود والأزمنة، سنبقى ندور في نفس الحلقة من القمع والخوف، نحمل رايات مختلفة، لكن بخلفية واحدة، وأيادٍ لا تزال تؤدي التحية ذاتها.