
د. عبدالله ويسي
رئيس اتحاد علماء الدين الإسلامي في كوردستان
بين لقمة العيش وسيادة الإقليم: أزمة الرواتب والضغط السياسي على كوردستان

في خضم الأزمة المالية التي تعصف بإقليم كوردستان، يجد الموظف في إقليم كوردستان نفسه عالقًا بين مطرقة تأخر الرواتب وسندان الصراعات السياسية. فمع كون الراتب مصدر المعيشة الوحيد أو الرئيس لمعظم سكان الإقليم، بات تأخره أو بالأحرى تأخيره يُثقل كاهل المواطنين، ويهدد استقرار آلاف الأسر التي تنتظر نهاية كل شهر بصبر نافد وأمل ضئيل.
لكن، ورغم أحقية هذه المطالب، لا يمكن اختزال جوهر الأزمة في بعدٍ معيشي صرف. إذ لا يصح تفسير هذا التأخير فقط على أنه خلل إداري أو فشل مالي، بل هو انعكاس لمعادلة معقدة تتداخل فيها الحسابات السياسية مع محاولات تقويض التجربة الفيدرالية الكوردية، وتفريغها من مضمونها السيادي.
اللامبالاة التي تظهرها حكومة بغداد ضدّ الإقليم لا تعكس فقط خلافًا حول الصلاحيات الدستورية أو نسب توزيع الإيرادات، بل تعبّر عن صراع أعمق يستهدف الكيان السياسي لإقليم كوردستان، ويمتد بجذوره إلى تاريخٍ طويل من مقاومة الشعب الكوردي للهيمنة المركزية، وسعيه لبناء كيان يحفظ هويته وكرامته.
إن حكومة الإقليم تتحمّل مسؤولية حماية السيادة والقرار السياسي لكوردستان، كما أن المواطن الكوردي على وعي وإدراك تامّ أنّ المطالبة بحقوقه المعيشية لا تتناقض مع التمسك بثوابته الوطنية، بل تتكامل معها ضمن مشروع وطني متوازن.
ما تفعله القوى السياسية الحاكمة في بغداد اليوم، من استخدام أدوات الضغط المالي ضد الإقليم، يتجاوز حدود الخلافات الإدارية. إنها محاولة صريحة لإعادة ترسيم العلاقة الفيدرالية، بل لتقليصها وتحجيم دور الإقليم، من خلال سحب ملفات اقتصادية حساسة كملف النفط والرواتب من يد حكومة كوردستان، فكيف يطالبون شعب كوردستان بأن يفتخروا ببلد لم يعترف بحقوقه القومية ووجوده الدستوري؟
كيف يكون انتماء المواطن في كوردستان لبلد استخدمت حكوماته السابقة الغازات الكيماوية و المقابر الجماعية و الأنفال و التهجير؟ وتعمل الحكومة الحالية على الإبادة الجماعية عن طريق قطع الرواتب ؟ وكيف يشعر المواطن الكوردستاني بأنه مواطن في هذا البلد ومستحقاته المالية منذ العام 2014 على كف عفريت، وندخل الآن الشهر الثالث و موظفو الإقليم و متقاعدوه بدون رواتب؟
في ظل هذه التطورات، ومع اقتراب موعد الانتخابات، تبدو هذه الضغوط السياسية والاقتصادية وكأنها محاولة لتشكيل المزاج السياسي العام في الإقليم، وتوجيه خياراته المستقبلية. غير أن وعي شعب كوردستان، وتجربته السياسية العميقة، كفيلان بتحويل هذا الظرف القاسي إلى لحظة يقظة وطنية، تعيد ترتيب الأولويات، وتُخرج الصوت الشعبي من خانة الشكوى إلى ميدان الموقف والمسؤولية.
نحن لا نمجّد المعاناة، لكننا ندرك أن ما يجري ليس مجرد أزمة رواتب، بل هو جزء من معركة أكبر لإعادة رسم خريطة الصلاحيات والسلطات، وربما حتى الهويات. وهي معركة لا تحتمل الغفلة، ولا الانقسام، بل تتطلب موقفًا موحدًا يحفظ لقمة العيش، ويصون السيادة معًا…
يتذكر المواطن الكوردستاني دائما قول الباري عزوجل : (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين).