بين سقراط وبارزاني الاب… عندما يحملك تلميذك أو يحتضنك شعبك

بين سقراط وبارزاني الاب… عندما يحملك تلميذك أو يحتضنك شعبك
بين سقراط وبارزاني الاب… عندما يحملك تلميذك أو يحتضنك شعبك

تعلّمنا أن الإنسان بقدر ما يكتب، يُعرف؛ وبقدر ما يعمل، يأكل؛ وبقدر ما يعطي، يُحَبّ. تعلّمنا أن الكلمة التي تخرج من القلب تصل إلى الناس، وأن التفاني في خدمة الآخرين هو ما يمنح الاسم قيمة لا تُنسى. فـ”خير الناس من نفع الناس”، وهي قاعدة لا تقتصر على المجال الاجتماعي، بل تمتد إلى عالم السياسة والفكر وحتى الخلود.

في مضمار الانتخابات، الأصوات لا تُحسم بالشعارات وحدها، بل تُبنى عبر علاقات، وعطاء، وسيرة تشبه كتاباً مفتوحاً يقرؤه الناس دون أن يُكتب بالحبر. لهذا، من ينفع الناس يحصد رضاهم، وربما ترشيحهم، وربما يتبوأ مكانةً لا تندثر بعد وفاته، إن لم تكن بتمثال أو مؤلَّف، فبألسنة العامة وأناشيد الوطن.

لو لم يكن هناك أفلاطون، لما بقي سقراط حيًا في الذاكرة الفلسفية حتى اليوم. لم يترك سقراط كتابًا، ولا نُشر له مؤلَّف بعنوان واضح أو تاريخ طبع معروف، لكنه بقي خالدًا بفضل طالبٍ واحد اسمه أفلاطون، حمل فكر أستاذه وسجّل محاوراته، ومنحه الخلود في سجلات الفلسفة العالمية. هذا هو أثر التلميذ المخلص، حين يختار أن يكون لسان أستاذه بعد وفاته.

لكن، ماذا لو لم يكن ثمة تلميذ، بل كان هناك شعبٌ بأكمله هو من يختارك، ويخلّدك، ويجعل اسمك رمزًا وطنيًا تتناقله الأجيال؟

هذا ما حصل مع البارزاني الخالد، الأب الروحي للأمة الكوردية. لم يكن مؤلفًا لفلسفة منهجية، ولم يترك “جمهورية كتب”، ولا كرّس حياته لإلقاء المحاضرات أو كتابة الرسائل، لكنّه صنع تاريخًا تُقرأ فصوله في الوجدان الشعبي الكوردي، بالنضال و السلاح و الحوار لا كتب من تاليفه على رفوف المكتبات.

إن سقراط دخل عالم الخلود من بوابة أفلاطون، أما البارزاني فدخله من بوابة الشعب. ومتى ما احتضنك شعبٌ كامل، فلا تحتاج إلى تلميذ يدوّن أقوالك، لأن كل فرد من الأمة سيغدو حاملًا لجزء من سيرتك، وناقلًا لرسالتك، وكأن روحك انقسمت على ملايين النسخ.

هنا تكمن المفارقة بين الفلاسفة والزعماء الثوريين. الفيلسوف غالبًا ما يكون تابعًا للسلطة أو تحت رحمتها، مثل سقراط الذي حُكم عليه بالموت من قبل القيادة الأثينية، بينما الزعيم الثوري، مثل البارزاني، يُصنع من إرادة الجماهير، ويُحتضن من قبل الأرض التي أحبّها، والناس الذين رأوا فيه خلاصهم. سقراط مات بالكأس، أما البارزاني فصار كأسًا يشرب منه الكورد جرعة الصبر والكرامة والبقاء.

الفلاسفة يُزكِّيهم من يأتي بعدهم، من تلامذتهم ومريديهم، لكن القادة من طينة بارزاني، يُزكِّيهم شعبٌ بكامله، ويختارهم بالإجماع الصامت في قلوب الملايين. لا أحد فرض البارزاني زعيمًا، لم يأتِ بمرسوم، ولا عُيِّن بقرار فوقي، بل خرج من بين الصفوف، وحملته الدماء التي سالت، والجبال التي احتضنت الثورة، والقصص التي رُويت في القرى والمخيمات.

كم هو مدهش أن يكون اسمك نشيدًا يتغنّى به الأطفال، وبوابةً لذكريات الكبار، ومحرّكًا لمشاعر الحنين في الشتات! كم هو عظيم أن يتحوّل يوم ميلادك أو رحيلك إلى مناسبة وطنية يشارك فيها الصغير قبل الكبير، وتُرفع فيها الأعلام لا الحناجر فقط!

الفلاسفة كانوا أحيانًا مستشارين للحكّام، لكن بارزاني كان حاكمًا مستشارًا من قبل الشعب. لم يكن فيلسوفًا بالمعنى الكلاسيكي، لكنه كان حكيم أمة، يوجّهها دون خطاب مطوّل، ويزرع فيها الرجاء دون فلسفة مجردة. لم يحتج إلى كتب ليخلّد فكره، لأنّ كتابه الأصدق كُتب في محبة الناس له، في احترام أعدائه قبل أصدقائه لاسمه، وفي استمرار أبناء كوردستان بالسير على دربه حتى بعد رحيله.

الفارق أن سقراط احتاج إلى قلم تلميذ ليبقى حيًا، أما البارزاني فقد كتبه الناس بالدم قبل أن يكتبوه بالحبر. سقراط صار فيلسوفًا بلسان أفلاطون، أما بارزاني فصار زعيمًا بلسان أمة. الأولى حالة نادرة في الفكر، والثانية ظاهرة فريدة في التاريخ.

لذا، حين يكتب عنك تلميذٌ واحد، قد تدخل ذاكرة النخبة. لكن حين يكتب عنك شعبٌ كامل، تدخل ذاكرة التاريخ. وكوردستان، حين تذكر بارزاني، لا تذكر فردًا فقط، بل تذكر مرحلةً، ومسارًا، وهويةً تماهت مع شخص، صار اسمًا لكل بيت، وصورة في كل قلب.

إنها مفارقة الخلود بين فلاسفة حاوروا الموت بالكلمة، وزعماء قادوا الحياة بأعمالهم