
د. ابراهيم احمد سمو
كاتب كوردي
عنق الزجاجة والقضية الكوردية

منذ أن وعينا على أنفسنا ككورد، ومنذ أن قرأنا التاريخ المسجَّل، أو سمعنا الروايات المتناقلة عبر الأجيال، أدركنا أننا شعب حُصر داخل دائرة مغلقة، أشبه بزجاجة ضيّقة العنق. هذه الزجاجة لا تُكسر، ولا يُسمح لنا بالخروج منها، وكأنها صُمّمت خصيصًا لاحتواء قضيتنا، ولمنعها من الانفلات نحو فضاء الحرية.
لم يكن عنق الزجاجة مجرد استعارة لغوية، بل هو واقع سياسي وتاريخي عشنا فيه طويلًا. فالقضية الكوردية، رغم عدالتها ووضوح معالمها، لم تخرج بعد من هذا الاختناق التاريخي، لأن القوى المتحكمة بمصير المنطقة حرصت دائمًا على إبقاء الكورد في دائرة الانتظار، وسط وعودٍ مؤجلة، وخرائط متبدلة، واتفاقات لا تكتمل.
في كل مرحلة تاريخية، كانت هذه الزجاجة تُحمَل بأيدٍ مختلفة. تارةً تُرفع إلى السطح ويُسلَّط عليها الضوء، فيُمنَح الكورد هامش أمل، ويُشار إليهم كقوة مقاومة وتحرّر. وتارةً تُلقى من جديد في أعماق البحر السياسي، لتغرق مع صمت العالم، وتُنسى في زوايا الذاكرة الدولية. وبين هذه الرفعة وتلك السقطة، ظل الكوردي يتنفس من عنق الزجاجة، ينتظر لحظة انفراج قد تأتي، وقد لا تأتي أبدًا.
لقد حاولت القوى الإقليمية والدولية التعامل مع القضية الكوردية كـ”زجاجة قابلة للتجميد”. حين تتطلب المصلحة، تُخرجها من أدراج النسيان، وتضعها على الطاولة في المؤتمرات، ثم تعيدها إلى المتحف حين تنتهي الحاجة. تعاملوا معنا كمجرد ملف يُفتح ويُغلق، أو كورقة يُلعب بها في بازار المصالح، لا كشعب له أرض وهوية وتاريخ وحقوق مشروعة.
وكلما اقترب الكورد من عنق الزجاجة، محاولين الخروج منه، تهاطلت عليهم الضربات. تهجير، تدمير، تغييب، قصف، حصار، واجتياح. ومع ذلك، لم يفقدوا الأمل، ولم يستسلموا ، بل واصلوا الزحف نحو الضوء، مقتنعين أن هذا العنق الضيّق لا يمكن أن يستمر إلى الأبد.
في لحظات معينة، شعر الكورد بأن الزجاجة ستنكسر. لحظات انتصار، أو صعود سياسي، أو تعاطف دولي، أو استفتاء جماهيري. ولكن دائمًا ما كان هناك من يتدخل لإعادة الغطاء، وإغلاق الزجاجة بإحكام. فما أن يرتفع الصوت الكوردي في الساحة، حتى تُفعَّل آليات الإخماد، ويُعاد ترتيب الأوراق الإقليمية على حساب الكورد.
ومع كل ذلك، لم تتغير ملامح الشعب الكوردي. لم يتبدّل الولاء للأرض، ولا الحنين للحرية، ولا العناد التاريخي في وجه القهر. الكوردي – رغم كل الهزائم والانكسارات – لا يزال يؤمن بأن الخروج من عنق الزجاجة ممكن، وإن طال الزمن.
ولأنهم يعرفون ذلك، حاولوا كثيرًا أن يكسِروا الزجاجة لا ليُحرّروا من فيها، بل لينهوا ما تبقى منها. ولكنهم عجزوا. الزجاجة لم تنكسر، لأنها لم تُصنع من زجاج هش، بل من إرادة شعب صلب، صيغت روحه في الجبال، وتكوّن وعيه بين لهب الثورة، وملح الخبز، ودماء الشهداء.
اليوم، ونحن نعيش في مرحلة دقيقة، تتداخل فيها الملفات، وتتراجع فيها كثير من القيم، وتُباع فيها القضايا العادلة في أسواق النفوذ، تبدو الزجاجة أكثر ضيقًا، والمخاطر أشد. لكن ما يبعث على الأمل – ولو قليلاً – هو أن القضية الكوردية لم تعد غائبة كما كانت. فهي حاضرة في الوعي، في الضمير، في الخطاب السياسي، حتى وإن لم تحظَ بدعم فعلي.
إننا، نحن أبناء هذه القضية، لسنا متفرجين على ما يجري، ولسنا ضحايا فقط، بل نحن أيضًا شهود على مرحلة تاريخية صعبة. وما نحتاجه اليوم ليس فقط كسر الزجاجة، بل تجاوز الفكرة التي صنعتها: فكرة التهميش، والانتظار، والقبول بالممكن. لا بد أن نبدأ بكتابة سرديتنا، لا كضحايا، بل كصُنّاع للتاريخ، لا كمن ينتظر الخلاص من الخارج، بل كمن يسعى لتغيير الداخل.
قد يقال إن هذا الخطاب مثالي، أو بعيد عن الواقع، أو أن الزمن تجاوز مثل هذه الأحلام. لكن الشعوب التي تعبت ولم تستسلم، هي وحدها التي كتبت مستقبلها. ونحن، رغم كل الانتكاسات والانقسامات ، لا زلنا نملك الحلم. لا زلنا نمتلك القدرة على التنفس من عنق الزجاجة، ريثما يأتي يوم نكسر فيه هذا القيد، ونخرج شعبًا حرًّا، لا يسكن الزجاج، بل يسكن التاريخ والجغرافيا والكرامة.
وفي الختام، لا بد أن نسأل أنفسنا:
هل سنبقى شعبًا محصورًا في عنق الزجاجة؟ أم سنكون من يكسر الزجاجة، ويفرض وجوده في الهواء الطلق ؟