السياسات المتقلبة أم السياسات المتجذرة تأملات في تجربة ما بعد 2003

السياسات المتقلبة أم السياسات المتجذرة تأملات في تجربة ما بعد 2003
السياسات المتقلبة أم السياسات المتجذرة تأملات في تجربة ما بعد 2003

منذ سقوط النظام السابق في عام 2003 والعراق يمر بمرحلة دقيقة من التحول السياسي والاجتماعي اتسمت بالغموض والارتباك في ملامح السياسات العامة للدولة ورغم الشعارات الكبيرة التي رفعت تحت عباءة الوطنية فإن الواقع كشف لنا أن كثيرا من تلك السياسات لم تكن سوى مشاريع آنية مشحونة بمصالح ضيقة لا تمت للوطن بصلة لا في الجوهر ولا في الممارسة.لقد أصبح واضحا أن السياسات المتقلبة التي نشهدها ليست ناتجا لعجز في التخطيط فقط بل نتيجة لغياب رؤية وطنية صادقة ومشروع حقيقي لبناء الدولة وما يطرح على أنه مشروع وطني غالبا ما يكون مجرد غطاء لسياسات فئوية تدار بعقلية الاستحواذ والتنفيذ على حساب الوحدة الوطنية مما أدى إلى تفكك عدد من ركائز الوطن واحدة تلو الأخرى فالوطن ليس مجرد خريطة بحدود سياسية بل هو منظومة قيم ومفاهيم متكاملة (الانتماء العدالة المواطنة الهوية الجامعة والتوزيع العادل للفرص )وعندما تفرغ هذه القيم من محتواها وتُحَول  إلى شعارات للاستهلاك السياسي فإننا لا نفقد فقط مقومات الدولة بل نخسر الرابط المعنوي الذي يجمع أبناء هذا الوطن
والأخطر من ذلك هو أن هذه القيم أصبحت تتآكل تدريجيا نتيجة لسياسات ممنهجة تتلاعب بالمصير المشترك وتحول مؤسسات الدولة إلى أدوات لخدمة فئة على حساب أخرى فمنذ عام 2003 نشهد محاولات متكررة لضرب النسيج الاجتماعي من خلال تعزيز الانقسامات المذهبية والعرقية بدلا من ترسيخ ثقافة التنوع والتعدد ضمن إطار وطني موحد لم تكن هذه الانقسامات صدفة بل جزءا من مشروع سياسي أريد له أن يستمر ويتجذر وهنا نصل إلى جوهر المفارقة فبينما توصف بعض السياسات بأنها متقلبة فإن الأخطر منها هو تلك السياسات المتجذرة في بغدادوالتي تقوم على الطغيان السياسي ورفض الشراكة وإنكار الآخر إنها عقلية حكم ترى في الشراكة تهديدا وفي التنوع ضعفا وفي الرأي الآخر عداء يجب إسكاته.إن أخطر ما في هذه السياسات المتجذرة ليس فقط مضمونها الإقصائي بل ثبات الأشخاص والعقليات التي تديرها منذ عام 2003 وحتى اليوم فكيف يمكن انتظار سياسة جديدة بعقلية قديمة وكيف يبنى مشروع وطني بأدوات لا تؤمن بالشراكةأصلا.الواقع يثبت أن التغيير في السياسات لا يمكن أن يتحقق ما دامت الوجوه ذاتها والعقليات ذاتها والمصالح ذاتها تتحكم بمفاصل الدولة لا يكفي أن نغير الشعارات أو نعيد ترتيب الأولويات على الورق بل يجب أن يتم تغيير حقيقي في البنية السياسية والإدارية يبدأ من استبدال النمط القيادي الذي اعتاد الاستحواذ والإقصاء بنمط جديد يؤمن بالتنوع والعدالة والمواطنة.لا بد من الإقرار بأن هذه السياسات لا تستمر من تلقاء نفسها بل بفعل منظومةأشخاص ومصالح وشبكات نفوذ تستفيد من بقاء الأوضاع على ما هي عليه لذلك فإن تفكيك هذه المنظومة هو الشرط الأساسي للانتقال من مرحلة إدارة الأزمة إلى مرحلة بناء الدولة وبدون هذا التغيير البنيوي في الأشخاص والنهج فإننا سنبقى ندور في حلقة مفرغة تعيد إنتاج الأزمات تحت عناوين مختلفة.هذه السياسات المتجذرة لا تحمل سمات الدولة المدنية أو الرؤية الجامعة بل تقوم على منطق الإقصاء وتعيد إنتاج السلطة وفق نموذج مركزي متشدد يجعل من الوطن ساحة صراع دائم لا مشروع حياة مشتركة إنها سياسة تعادي التنوع وتنتقص من حقوق المكونات وتقصي القوى السياسية غير الخاضعة لمعادلات الولاء لذلك لا يمكن وصفها بسياسة وطنية بل بسياسة مفروضة بقوة الهيمنة تتجدد بأشكال متعددة ولكنها في جوهرها تنتج الأزمة ولا تنهيها.بين السياسات المتقلبة وتلك المتجذرة في الاستبداد ورفض التنوع يقف الوطن اليوم أمام خيار مصيري لقد أثبتت التجربة أن الشعارات لا تصنع أوطانا وأن الأوطان لا تبنى على تسلط الأحادية السياسية ورفض التنوع بل على القيم والمبادئ الراسخة التي تضمن استقرار الدولة وكرامة المواطن.فهل آن الأوان أن نخرج من عباءة السياسات المتجذرة في الإقصاء ونتجه نحو مشروع وطني حقيقي يؤمن بالتعدد ويصون الهوية ويبني دولة تتسع للجميع.