بعد الانسحاب الأميركي من العراق: أيّ مستقبل ينتظر إقليم كوردستان وسط صراعات المنطقة؟

بعد الانسحاب الأميركي من العراق: أيّ مستقبل ينتظر إقليم كوردستان وسط صراعات المنطقة؟
بعد الانسحاب الأميركي من العراق: أيّ مستقبل ينتظر إقليم كوردستان وسط صراعات المنطقة؟

في خطوة فاجأت الجميع وجرفت كل الاتفاقات السابقة، قررت الولايات المتحدة الأمريكية سحب قواتها على نحو فوري وغير متدرج من العراق، مع إعادة نشر جزء منها في أربيل كعاصمة إقليم كوردستان، وجزء آخر في دولة عربية مجاورة دون إشعار مسبق. هذا القرار الاستراتيجي الذي غيّر قواعد اللعبة، لا يعيد فقط تشكيل خارطة التوازنات الأمنية والسياسية في العراق، بل يلقي عبئًا ثقيلًا على كاهل الإقليم، ويضعه أمام تحديات كبرى ومسؤوليات تاريخية قد تكون فارقة في مستقبل المنطقة بأسرها.

الفراغ الأمني والانزلاق نحو مزيد من التوترات
الانسحاب المفاجئ لا يترك سوى فراغ أمني واضح، يهدد الاستقرار، ويمهد الطريق لتصعيد الصراعات بالوكالة بين القوى الإقليمية الكبرى، خاصة بين إيران وإسرائيل. إذ أن غياب القوات الأمريكية في العراق يفتح المجال لإسرائيل لشن ضربات مباشرة على الميليشيات العراقية الموالية لطهران دون التنسيق مع بغداد، ما يهدد بتحويل الأراضي العراقية إلى ساحات قتال تتقاتل فيها أطراف غير عراقية على حساب سيادته الوطنية.

وفي هذا السياق، كشفت مصادر مطلعة عن تحركات ميدانية واستعدادات أمنية داخل بغداد، في توقع لهجمات إسرائيلية محتملة، هي بمثابة مؤشر خطير على تدهور الوضع الأمني وتحوله إلى خطر داهم على جميع مكونات العراق، وخاصة على إقليم كوردستان الذي يعاني أصلاً من توترات سياسية داخلية وضغوط إقليمية متعددة.

إقليم كوردستان: من منارة الاستقرار إلى قلب المعركة الأمنية
يبدو أن إقليم كوردستان صار «عنق الزجاجة» في هذا المشهد الجديد، إذ يواجه تحديًا مركبًا بين تهديدات أمنية، وسياسية، واقتصادية. ورغم هذا العبء الثقيل، ظل إقليم كوردستان والشعب الكوردستاني نموذجًا مشرفًا في الصمود أمام الإرهاب والتطرف، حيث قدّم الإقليم التضحيات الجمة في سبيل حماية الأمن ليس فقط داخله ولكن على امتداد العراق والمنطقة.

لم يكن الإقليم بمعزل عن سياسات دولية متذبذبة أو مناهضة، فقد تعرض إلى إهمال شبه دائم واضطهاد متكرر من الحكومة الاتحادية في بغداد، والتي حرمت الإقليم من حقوقه الدستورية في المشاركة السياسية العادلة، ومن حصته المالية التي تمثل دعامة للاقتصاد والتنمية في الإقليم. ولم تتوقف التحديات عند هذا الحد، بل تعرّض الإقليم لهجمات إرهابية ممنهجة شنتها منظمات مسلحة وميليشيات مختلفة، كان آخرها الاعتداءات الخطيرة على منشآته النفطية الحيوية التي تُمثل شريان الحياة للاقتصاد الكردستاني.

ومع ذلك، ظل الشعب الكوردستاني بقيادته الحكيمة رافضًا لأي ضغوط ومحاولات تقسيم أو تسليم أمنه لمكونات خارجية، حيث برهنت القيادة، وعلى رأسها فخامة الرئيس مسعود بارزاني، على حس وطني عالٍ ورؤية استراتيجية ناضجة في إدارة الأزمة، فتجاوزت الخلافات الداخلية، وحافظت على استقرار إقليمها رغم الظروف القاسية، معززةً بذلك مكانة كوردستان كلاعب رئيس في المعادلة العراقية والإقليمية.

مقترحات استراتيجية لخدمة مصلحة إقليم كوردستان
في ظل هذا الواقع المعقد، يحتاج إقليم كوردستان إلى تبني منظومة عمل سياسية وأمنية شاملة تُعزز من دور الإقليم في المشهد العراقي وتضمن استقراره وحمايته من مخاطر الانزلاقات القادمة. ومن أبرز هذه المقترحات:

تعزيز الوحدة الوطنية الكوردستانية وتوحيد الصفوف: مهما اختلفت التوجهات الحزبية، فإن المرحلة الراهنة تتطلب الوحدة التامة خلف استراتيجية وطنية واحدة تحمي المكاسب السياسية وتحافظ على الأمن والاستقرار، تحت قيادة وطنية حكيمة، لا سيما دور الرئيس مسعود بارزاني الذي أثبت جدارته في التنقل بين ملفات سياسية وأمنية معقدة، وبناء تحالفات مع شركاء دوليين وإقليميين تعزز موقف الإقليم.

تطوير قوات الأمن المحلية: يجب أن يتم الاستثمار بجدية في تدريب وتجهيز قوات داخلية قوية تكون قادرة على ملء الفراغ الأمني الذي يخلفه الانسحاب الأمريكي تدريجيًا، حتى لا يتحول الإقليم إلى ساحة للصراعات المسلحة والاختراقات الأمنية التي تهدد أمن مواطنيه.

تفعيل الدبلوماسية الكوردستانية: دور الدبلوماسية الكوردستانية يجب أن يتسع، ويُمكّن الإقليم من تقديم نفسه كشريك إقليمي ودولي يعتمد عليه، يلتزم بمبادئ التعايش والسلام، ويُخاطب كل الأطراف دون استثناء لطمأنتها إلى أن استقرار كوردستان هو استقرار للعراق والمنطقة بأسرها.

تحصين الاستقلالية الاقتصادية: في ظل محاولات بغداد مراوغة وتأخير المستحقات المالية، لابد أن تعزز حكومة الإقليم من سياسات تنويع الاقتصاد، ودعم المشاريع التنموية التي تقلل من التبعية المالية، وتُعيد بذلك الثقة إلى الداخل الكوردستاني وتحمي الإقليم اقتصاديًا في مواجهة الحصار الضمني والتجويع الممنهج.

إدامة الحوار الوطني العراقي: يجب أن يسعى الإقليم بشكل نشط إلى فتح قنوات حوار مع مختلف المكونات والقوى السياسية العراقية لبناء توافق وطني يعترف بحقوق الأكراد كاملة، ويؤسس لشراكة حقيقية في القرار وتحقيق الاستقرار الذي يصب في مصلحة جميع العراقيين.

الحكومة العراقية: مسؤولية وطنية تستوجب التوافق
الأزمة الخطيرة التي يمر بها العراق تفرض على الحكومة الاتحادية أن تتحلى بالمسؤولية الكاملة، وأن تدخل في حوار جدي يستطيع من خلاله استيعاب المخاوف الكوردستانية والسنية، وتشكيل موقف وطني موحد قادر على حماية العراق من خطر التصعيد والانقسام. إن تحميل الإقليم مسؤولية الانسحاب والافتراق من دون منح الطرف الآخر الدور الحقيقي والشراكة الفعلية لن يخلّص العراق من مآزقه بل يزيدها تعقيدًا.

بين الفرصة والتهديد: المستقبل المجهول للعراق وكوردستان
يعيش العراق اليوم لحظة فارقة، قد تكون التي تحدد معالم مستقبله لعقود قادمة. فهناك فرصة تاريخية لإعادة بناء دولة مؤسسات، تقوم على العدالة والمساواة وسيادة القانون، بعيدًا عن الاستقطابات الحزبية الضيقة والمصالح الشخصية. لكن هذه الفرصة لا يمكن استثمارها إلا بإرادة سياسية صلبة، تنبذ الفئوية وتعمل على توحيد الصف الوطني البناء.

في المقابل، فإن التمسك بانقسامات الماضي، وغياب استراتيجية موحدة للسلم الأهلي والأمني، توصل العراق إلى أتون صراعات جديدة تكون فيها القوى المسلحة خارج السيطرة، ما يفتح المجال لتدخلات خارجية، ويجعل البلاد ساحة سجال بين أطراف إقليمية ودولية.

الانسحاب الأمريكي المفاجئ ليس نهاية مرحلة بل بداية جديدة تحمل معها تعقيدات أصعب، ولكنها في الوقت نفسه اختبار حقيقي للنخبة العراقية عامة والإقليمية خاصة، وعلى رأسها القيادة الكوردستانية التي يظهر فيها فخامة الرئيس مسعود بارزاني بوصلتها الحكيمة، التي تعمل على حفظ أمن واستقرار كوردستان، وتوطيد وجوده السياسي في دائرة القرار.

الإجابة النهائية على مصير العراق وإقليم كوردستان لن تُكتب في عواصم القرار الخارجية، بل بمدى قدرة العراقيين على تجاوز خلافاتهم ووضع مصلحة البلاد فوق كل اعتبار. الأشهر المقبلة ليست مجرد مهلة، بل تحدٍ ومسؤولية تاريخية أمام شعب كوردستان والعراق كافة، ليكونوا بالفعل صناع مصيرهم لا ضحايا أزمات الآخرين.