
د.ميرزاد حاجم
محاضر في جامعة ديميدف الحكومية الروسية
جنود من خلف الحدود: الدبلوماسية الشعبية والجالية الكوردية

تتوالى فصول الأحداث في الشرق الأوسط، كأنها مسرحية قديمة تُعاد فصولها بوجوه جديدة. بين تقلبات السياسة الرسمية وصراعات القوى العظمى، تبرز أصواتٌ أخرى، تتجاوز حدود الدول والمؤسسات، لتشكل ما يُعرف بـ الدبلوماسية الموازية أو الدبلوماسية الشعبية. هذه الدبلوماسية، التي لا ترتبط بالبروتوكولات الرسمية، تعمل في الخفاء أحيانًا، وتظهر في العلن أحيانًا أخرى، حاملةً معها هموم الشعوب وتطلعاتها. هي ليست مجرد حوار بين شخصين، بل هي شبكة معقدة من العلاقات، تستغل قوة الأفراد والجماعات غير الحكومية للتأثير في مسارات السياسة الدولية.
في هذا السياق، تبرز مفاهيم مثل القوة الناعمة، التي عرّفها جوزيف ناي بأنها القدرة على تحقيق الأهداف من خلال الجاذبية والإقناع بدلاً من الإكراه أو الدفع المادي. لقد استُخدمت هذه القوة تاريخيًا ببراعة من قبل العديد من الدول والحركات؛ فعلى سبيل المثال، استعملت الولايات المتحدة الأمريكية قوة جاذبيتها الثقافية، من خلال الأفلام والموسيقى والمنتجات الاستهلاكية، لترسيخ نفوذها عالميًا خلال وبعد الحرب الباردة.
على الصعيد التاريخي، يُعد تأثير الجاليات في الخارج مثالًا بارزًا على هذه القوة. فقد لعبت الجالية الأيرلندية في الولايات المتحدة دورًا حاسمًا في الضغط على الحكومة الأمريكية وحشد الدعم لمناصري السلام في إيرلندا الشمالية، مما ساهم بشكل فعّال في تمهيد الطريق لاتفاقية الجمعة العظيمة. أما اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة، فإنه يُعتبر من أقوى الأمثلة على كيفية تحويل جالية منظمة إلى قوة ضغط سياسي فعّالة، قادرة على التأثير في السياسات الخارجية لدولة عظمى من خلال التمويل السياسي، والتنظيم، والتواصل المستمر مع صُناع القرار. هذه الأمثلة تبرهن على أن النفوذ الحقيقي لا يكمن دائمًا في القوة العسكرية، بل في القدرة على صياغة الأفكار وتشكيل القناعات.
الجالية الكوردية: قوة كامنة وموارد غير مستغلة
في خضم هذا المشهد، تبرز الجالية الكردية في المهجر كقوة ديناميكية، قادرة على لعب دور محوري وحساس. لطالما كانت هذه الجالية أكثر من مجرد مجموعة من الأفراد المهاجرين؛ فهي سفيرة شعبها، وحاملة قضيته إلى عواصم القرار الغربية. يمكنها أن تكون طرفًا ضاغطًا وقوة ناعمة في آن واحد، مستغلةً انفتاح المجتمعات الغربية على الحوار المدني وحرية التعبير. فبينما تتخبط الدبلوماسية التقليدية في دهاليز المصالح، تستطيع الجالية الكردية أن تُفصِح عن الرواية الإنسانية للقضية الكردية، بعيدًا عن لغة الصراع والحروب.
تتجلى هذه القوة الناعمة في أمثلة متعددة. على سبيل المثال، يمكن للمنظمات الثقافية الكردية في أوروبا وأمريكا أن تنظم فعاليات فنية وأدبية تُعرّف بالموروث الثقافي الغني للشعب الكردي، مما يكسر الصورة النمطية التي غالبًا ما ترتبط بالنزاعات. هذه الفعاليات لا تُعد مجرد ترفيه، بل هي جسر للتواصل الإنساني، يخلق تعاطفًا وتفهمًا لدى المجتمعات المضيفة. كما أن وجود أكاديميين وصحفيين ورجال أعمال أكراد في المهجر يتيح لهم الوصول إلى مراكز صنع القرار ووسائل الإعلام المؤثرة، مما يمنحهم منصات لنقل صوت الشعب الكردي بشكل مباشر وغير رسمي.
فرص ضائعة: مشاهير الكورد بين النجاح الفردي وغياب التأطير الجماعي
على الرغم من الإمكانات الهائلة التي تمتلكها الجالية الكردية، يواجه سؤال جوهري حول مدى الاستفادة المثلى من هذه الطاقات. ففي الوقت الذي برز فيه عشرات المشاهير من أصول كردية في مختلف المجالات العالمية – من عالم كرة القدم مثل مسعود أوزيل، إلى أيقونات الغناء مثل الفنانة زارا في روسيا، مروراً بالعديد من الأكاديميين والأطباء ورجال الأعمال – إلا أن هذه النجاحات الفردية لم تُترجم دائمًا إلى قوة جماعية منظمة تخدم القضية الكردية بفعالية في ساحات الدبلوماسية الشعبية.
إن غياب إطار مؤسسي واضح يجمع هذه الطاقات الفردية ويُوجهها نحو هدف سياسي أو ثقافي موحد يُعد فرصة ضائعة. فبدلاً من أن يكون هؤلاء المشاهير مجرد أيقونات فردية، كان بالإمكان استثمارهم كـ "سفراء غير رسميين" لقضيتهم، قادرين على الوصول إلى جماهير عريضة والتأثير في الرأي العام العالمي بفاعلية تفوق قدرة الدبلوماسية التقليدية. إن دمج هذه الشخصيات البارزة ضمن استراتيجية دبلوماسية شعبية مدروسة قد يضيف ثقلاً هائلاً للجهود المبذولة، ويُعزز من حضور الرواية الكردية على الساحة الدولية.
أهمية استغلال الطاقات البشرية
إن امتلاك جالية قوية في الخارج ليس مجرد مكسب عددي، بل هو استثمار في الطاقات البشرية. هذه الجالية تمثل رأس مال بشريًا لا يُقدّر بثمن، يجمع بين الولاء لأصله وبين الفهم العميق للمجتمع الذي يعيش فيه. إنها تمتلك المهارات واللغات والمعرفة اللازمة للتفاعل بفعالية مع الأنظمة الغربية.
لذلك، من الضروري استغلال هذه الطاقات بشكل منظم ومدروس. يمكن أن يتم ذلك عبر إنشاء منصات تجمع بين الكفاءات المختلفة من الأكراد في المهجر، سواء كانوا أطباء، مهندسين، فنانين، أو نشطاء. هذه المنصات يمكن أن تعمل كغرف فكر (Think Tanks)، تقدم تحليلات ورؤى استراتيجية للقضية الكردية. فالعالم اليوم لم يعد يُحكم بالحروب التقليدية فقط، بل بالروايات والسرديات التي تتشكل في العقول قبل أن تتشكل في ساحات المعارك.
في الختام، بينما يستمر الشرق الأوسط في دورانه في فلك الصراعات، فإن الدبلوماسية الشعبية، التي تقودها قوى ناعمة مثل الجالية الكردية، تقدم نموذجًا جديدًا للتغيير. هي ليست بديلًا عن الدبلوماسية الرسمية، بل هي مكمّل لها، يملأ الفجوات ويُضيف عمقًا إنسانيًا إلى عالم السياسة المعقد. إن صوت الشعب، عندما يتردد صداه من وراء الحدود، ويمكن استغلال كل طاقاته ورموزه، يمكن أن يكون أقوى من المهدئات السياسية، وأن يرسم ملامح مستقبل مختلف، مبني على الفهم والتعايش، لا على الصراع والنزاع