البيشمركة في قلب باريس

البيشمركة في قلب باريس
البيشمركة في قلب باريس

في الخامس من أيلول/سبتمبر 2025 شهدت العاصمة الفرنسية باريس حدثًا ذا دلالات سياسية ورمزية عميقة، تمثل في افتتاح "طريق البيشمركة" في حديقة (أندريه سيتروين)، بحضور رسمي رفيع المستوى وتغطية إعلامية دولية واسعة. وقد عُدّ هذا الافتتاح محطة مفصلية في إبراز مكانة قوات البيشمركة إقليميًا ودوليًا، حيث أكد الرئيس مسعود بارزاني في كلمته أن البيشمركة هم "حماة حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية". وبذلك، أُعيد ترسيخ صورتهم كقوة شرعية تحظى باحترام عالمي، بعد محاولات متكررة من أطراف مناوئة للتقليل من دورهم.

اتسمت المراسم بطابع بروتوكولي رفيع، إذ شملت زيارة الرئيس بارزاني لبلدية باريس، إحدى أهم المؤسسات الإدارية في أوروبا، التي تشرف على إدارة ما يزيد على ثلاثة عشر مليون نسمة. كما عُدّت الزيارة تأكيدًا لمكانة باريس بوصفها مركزًا لصنع القرار الأوروبي وواجهة سياسية بارزة ضمن التحالف الأطلسي (الناتو). وفي السياق ذاته، جاءت زيارة الرئيس بارزاني لوزارة الخارجية الفرنسية ولقاؤه بوزير الخارجية لتشكّل رسالة سياسية واضحة، تعكس عمق الحضور الكردي في المشهد الدولي، وتؤكد تنامي الاعتراف بالبيشمركة كفاعل رئيسي في منظومة الأمن العالمي.

ومن أبرز ما تضمنه خطاب الرئيس بارزاني الإشارة إلى التضحيات الجسيمة التي قدّمها البيشمركة في الحرب ضد تنظيم داعش، حيث استشهد أو جُرح أكثر من اثني عشر ألف مقاتل. وقد مكّنت هذه التضحيات من تحقيق نصر استراتيجي تمثل في وقف تمدد التنظيم ومنعه من التحول إلى تهديد عالمي خلال المدة بين عامي 2014 و2017. وعليه، فإن انهيار ما سُمّي بـ"خلافة داعش" كان على أيدي البيشمركة بصورة مباشرة، وهو ما اعتبره الاتحاد الأوروبي نقطة ارتكاز مركزية في حفظ الأمن الدولي، لاسيما وأن هذه القوات حالت دون وصول الإرهاب إلى عمق المدن الأوروبية.

أما في ما يتعلق بالموقف الفرنسي من القضية الكردية، فقد شدد الرئيس بارزاني على ثبات هذا الموقف، رغم تغيّر الإدارات الفرنسية المتعاقبة، معتبرًا أنه يعكس بعدًا استراتيجيًا في السياسة الفرنسية تجاه الكرد. وأوضح أن هذا الثبات يجد تفسيره في تشابه التجربة الكردية مع التجربة الفرنسية التاريخية في مقاومة الظلم والطغيان. ورغم التحديات البنيوية التي واجهها إقليم كوردستان على مدى العقود الماضية، تمكنت حكومة الإقليم برئاسة مسرور بارزاني من تحقيق إنجازات تنموية لاقت صدى دوليًا، مثل تطوير البنية التحتية، وإطلاق النظام المصرفي الإلكتروني (حسابي) للموظفين، وتنفيذ مشاريع خدمية حيوية كتوفير المياه العذبة والكهرباء المستمرة على مدار الساعة. وهذه الإنجازات تمثل علامات فارقة في مسار التنمية وتؤكد قدرة مؤسسات الإقليم على الاستجابة لمتطلبات الحاضر والمستقبل.

ومن الزاوية الإنسانية، أولى الرئيس بارزاني اهتمامًا خاصًا بدور الشخصيات الأوروبية الداعمة للقضية الكردية، وفي مقدمتهم السيدة دانيال ميتران، المعروفة بمواقفها المتضامنة مع الشعب الكردي منذ عام 1989. وأكد أن الكرد يمتازون بالوفاء والذاكرة الجمعية الحيّة التي تحفظ مواقف من ساندهم في أوقات الشدة. وفي هذا الإطار، جرى في مدينة أربيل تخليد اسم السيدة ميتران بإطلاقه على عدد من المعالم المهمة، اعترافًا بفضلها وتجسيدًا لعمق العلاقة الإنسانية التي تربط الشعب الكردي بأصدقائه في العالم.

إن هذا الحدث، بما حمله من أبعاد سياسية ورمزية وإنسانية، لا يمثل مجرد مناسبة احتفالية، بل يندرج في سياق أوسع يتعلق بإعادة صياغة صورة البيشمركة في الوعي الدولي، بوصفهم قوة شرعية تدافع عن القيم الإنسانية الكونية، وتساهم في تعزيز الأمن والاستقرار على المستويين الإقليمي والدولي.