أيلول... ثورة إنسانية ولحظة ولادة جديدة لكوردستان

أيلول... ثورة إنسانية ولحظة ولادة جديدة لكوردستان
أيلول... ثورة إنسانية ولحظة ولادة جديدة لكوردستان

حين قررت بريطانيا في عشرينيات القرن الماضي ضم جنوب كوردستان إلى العراق دون استشارة أهله، لم يكن القرار مجرد خطوة سياسية عابرة، بل بداية لرحلة طويلة من الألم والحرمان. كان الكورد يطالبون بحقوق بسيطة: حياة كريمة، اعتراف بوجودهم، وصون هويتهم، لكن بغداد ولندن اختارتا لغة النار بدل لغة الحوار. فجاء الرد على أصوات الشعب بمدافع ودبابات وطائرات قصفت القرى وأحرقت الحقول.
في تلك اللحظات القاسية، لم يكن أمام الكورد سوى التمسك بخيط الأمل، ومع كل قصف كان يولد إصرار جديد. ثورتا بارزان في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي كانتا صرخة في وجه الظلم، لكن الصرخة الكبرى جاءت في صباح 11 أيلول 1961 حين قاد الخالد مصطفى بارزاني أبناء شعبه إلى ثورة غيّرت مجرى التاريخ.
لم تكن أيلول مجرد معركة عسكرية، بل كانت قصة إنسانية بكل تفاصيلها. كانت أمًّا تودّع ابنها وهو ينضم إلى صفوف البيشمركة، وكانت طفلة صغيرة تحتمي في كهف من غارات الطائرات، وكان شيخ جليل يخبئ خبزًا وماءً للمقاتلين. في أيلول اجتمع الكورد مع شركائهم من الآشوريين والكلدان والتركمان وغيرهم من المكونات، ليقولوا بصوت واحد: الحرية لنا جميعًا.
لقد وحّدت الثورة زاخو ببدرة، وربطت الجبال بالسهول، وفتحت أمام الإنسان الكوردي نافذة يرى من خلالها نفسه حرًّا لا تابعًا. كان مصطفى بارزاني رمزًا للأمل في زمن يخيّم عليه صراع القوى العظمى، فبين معسكر شرقي وغربي أراد كل منهما أن يفرض أجندته، اختار بارزاني أن ينحاز فقط لشعبه ولقضيته.
وعلى مدار أربعة عشر عامًا، قدّم أبناء كوردستان دماءهم بلا تردد. أمهات ثكلى، وآباء دفنوا أبناءهم في تراب القرى، لكن تلك التضحيات لم تذهب سدى. فقد أجبرت الثورة النظام العراقي على الاعتراف بحقوق الكورد في اتفاقية 11 آذار 1970، وفتحت الباب أمام الاعتراف الدولي بالقضية الكوردية. وحتى حين جاءت خيبة الجزائر عام 1975، ظلّت جذوة الثورة مشتعلة، لتعود بروح جديدة في ثورة كولان وتستمر في الانتفاضة الشعبية عام 1991 التي مهدت لبرلمان وحكومة كوردستان.
اليوم، وبعد مرور أربعة وستين عامًا، ما زال صدى أيلول يعلو في جبال كوردستان. في هذه الذكرى، استذكر الرئيس مسعود بارزاني البيشمركة وكوادر الحزب الديمقراطي الكوردستاني، وأشاد بشجاعتهم وتفانيهم، مؤكداً أن دماء شهداء ثورة أيلول وجميع شهداء كوردستان هي التي حفظت الكرامة ورسمت ملامح الحرية.
ومن جانبه، شدّد رئيس حكومة إقليم كوردستان مسرور بارزاني على أن أيلول لم تكن حدثًا عابرًا، بل كانت مدرسة للوحدة الوطنية، وأن التمسك بروحها اليوم هو السبيل لحماية الكيان الدستوري للإقليم وصون منجزاته. 
ثورة أيلول لم تكن مجرد بندقية في الجبال، بل كانت قلب أم نابضًا، ودمعة يتيم، وحلم جيل أراد أن يعيش بسلام. إنها وصية التاريخ للأجيال: أن الحرية لا تُمنح بل تُنتزع، وأن الكرامة لا تُشترى بل تُصان بالتضحيات.
واليوم، حين ينظر أبناء كوردستان إلى السماء، يدركون أن كل نجمة فوق جبالهم تحمل اسم شهيد، وأن كل شمس تشرق هي وعد جديد بأن أيلول سيبقى حيًا ما دام في هذه الأرض شعب يؤمن بحقه في الحياة .