
زوراب عزيز
كاتب كوردي
سوريا بين المركزية والفيدرالية.. رؤية جديدة للتعايش السياسي

تشهد سوريا مرحلة جديدة من إعادة تشكيل النظام السياسي بعد سنوات طويلة من الصراع الداخلي والتحولات الإقليمية والدولية. ومع دخول البلاد مرحلة الحكومة الانتقالية وبدء الحوار حول مستقبل الإدارة الذاتية الكوردية، يبرز جدل كبير حول شكل الدولة السورية: هل ستبقى مركزية كما كانت لعقود، أم ستتبنى نموذجًا فيدراليًا يضمن مشاركة جميع المكونات ويقلل الاحتكاك بين الجماعات المختلفة؟
النظام المركزي في التاريخ السوري الحديث
لطالما اعتمدت الدولة السورية على نموذج مركزي يتركز فيه القرار السياسي والاقتصادي والعسكري في العاصمة دمشق. هذا النظام ساهم في الحفاظ على وحدة الدولة، لكنه في الوقت نفسه أدى إلى تهميش بعض المكونات القومية والدينية، ولا سيما الكورد والعرب المسيحيين والإيزيديين.
تاريخيًا، تؤكد التجارب أن المركزية المفرطة غالبًا ما تفتح الباب أمام النزاع عند تجاهل الحقوق المحلية. فالعراق في الستينيات والسبعينيات شهد محاولات لفرض سلطة مركزية صارمة، ما أدى إلى حركات تمرد كوردية متكرّرة، قبل التوصل إلى اتفاق الحكم الذاتي عام 1970، الذي انهار لاحقًا بسبب غياب الثقة والضمانات القانونية. بالمثل، وعدت القوى الغربية الكورد بدولة مستقلة في معاهدة سيفر 1920، لكنها تراجعت عن وعدها في معاهدة لوزان 1923، تاركة الكرد دون حماية سياسية أو ضمانات، وهو درس واضح حول هشاشة الاتفاقات دون مؤسسات قوية.
الفيدرالية: خيار للتعايش والاستقرار
النظام الفيدرالي يقوم على توزيع السلطات بين المركز والمناطق، مع منح الأخيرة حرية إدارة شؤونها الداخلية بما في ذلك التعليم، الموارد الطبيعية، والشرطة المحلية. هذا النموذج يوفر أفقًا لتقليل الصراع بين المكونات المتعددة، ويخلق إطارًا مؤسسيًا لتقاسم السلطة بطريقة عادلة.
التجربة الواقعية تظهر فعالية الفيدرالية في مجتمعات متعددة القوميات: بعد سقوط نظام صدام حسين، تمكّن الكورد في العراق من تأسيس إقليم فيدرالي يتمتع بحكم ذاتي ضمن الدولة العراقية، ما أتاح استقرارًا نسبيًا رغم الخلافات حول الموارد والسيادة. وفي البوسنة والهرسك، أسهم اتفاق دايتون 1995 في إنهاء الحرب الأهلية وتأسيس دولة لامركزية تضمُّ ثلاثة مكونات رئيسية، البوشناق والصرب والكروات، ما قلل من احتمالات النزاع المفتوح وحافظ على حقوق المكونات المختلفة. أما سويسرا، فهي نموذج عملي لدولة اتحادية متعددة اللغات والثقافات والأديان، حيث تضمن الفيدرالية مشاركة جميع المكونات في الحكم وتقليل الاحتكاكات العرقية والدينية.
الضغوط الإقليمية والدولية
تواجه سوريا تحديات حقيقية في تطبيق أي نموذج فيدرالي. تركيا، على سبيل المثال، ترفض أي كيان كوردي مستقل على حدودها، معتبرة “قسد” امتدادًا لحزب العمال الكوردستاني. تصريحات الرئيس رجب طيب أردوغان الأخيرة، حول عدم السماح بكيان إرهابي جنوب الحدود، تعكس هذا الموقف الصارم، وتذكر بمصير لواء الإسكندرون عام 1939، حين استغلت تركيا ضعف الحكومة السورية وتواطؤ فرنسا لضم المنطقة إليها.
أما الولايات المتحدة، فموقفها يميل إلى الحذر. فهي تقدم دعمًا عسكريًا محدودًا لـ”قسد”، لكنها لا تمنحها غطاء سياسيًا واضحًا، مما يعيد إلى الأذهان حالة الكورد بعد اتفاق سيفر 1920، عندما لم يُترجم وعد القوى الكبرى إلى واقع عملي.
التوازن بين المركزية والفيدرالية
الحل الأمثل في سوريا اليوم يبدو في تبني نموذج سياسي هجين يجمع بين المركزية والفيدرالية، يتيح للدولة الحفاظ على وحدة أراضيها، ويضمن في الوقت نفسه حقوق المكونات المختلفة. الفيدرالية هنا لا تعني تفكيك الدولة، بل توزيعًا عادلًا للسلطة يتيح للأقليات إدارة شؤونها دون المساس بالسيادة الوطنية، ويقلل من احتمالات العودة إلى النزاع المسلح.
التجارب التاريخية، سواء في العراق أو البوسنة أو سويسرا، تؤكد أن الفيدرالية توفر إطارًا مستدامًا لتقاسم السلطة وحماية حقوق المكوّنات، مع الحفاظ على وحدة الدولة، وتظهر أن النظام اللامركزي هو السبيل الأقرب لتحقيق التعايش في مجتمعات متعددة القوميات.
مفترق الطرق
سوريا اليوم أمام مفترق طرق: العودة إلى مركزية صارمة قد تعيد تجربة الماضي مع ما يترتب عليها من شعور بالحرمان والتهميش، أو تبني نموذج فيدرالي يضمن التعايش والتمثيل العادل لكل مكون.
الفيدرالية ليست مجرد خيار نظري، بل مسار عملي يمنح سوريا فرصة حقيقية للاستقرار السياسي والاجتماعي في المستقبل القريب، مع حماية الحقوق وإدارة التنوع بطريقة متوازنة ومستدامة.