
أحمد الحمداني
كاتب
رزقٌ مسلوب.. وألمٌ لا يقلّ عن الأنفال: أزمة رواتب كوردستان في مرآة الوجع الوطني

في تصريحٍ مؤلمٍ يلخّص عمق المأساة التي يعيشها شعب كوردستان، قال الرئيس مسعود بارزاني:
“ألمُ قطعِ رزقِ الشعب الكوردي لم يكن أقلّ من ألمِ الأنفال والهجمات الكيماوية.”
ليس هذا التصريح مجرّد تعبيرٍ عاطفي، بل هو تشخيصٌ دقيق لحالة القهر المتواصل التي يتعرّض لها أبناء الإقليم، نتيجة سياساتٍ مركزيةٍ عقابية استخدمت الاقتصادَ مرارًا كسلاحٍ سياسي.
منذ سنوات، يعاني موظفو كوردستان من تأخّر الرواتب أو انقطاعها لأشهرٍ طويلة، دون أي ضمانٍ قانوني أو حمايةٍ اجتماعية. وتعاملت الحكومات المتعاقبة في بغداد مع هذا الملفّ باعتباره ورقة ضغطٍ لتحقيق مكاسب سياسية في العلاقة مع حكومة الإقليم، لا كاستحقاقٍ دستوري وإنساني.
في كل مرةٍ تُثار فيها قضيةُ حصةِ كوردستان من الموازنة، تتردّد الحجج ذاتها: “لم يسلّموا النفط”، “لا يلتزمون بالقانون”، فيما يبقى المواطن الكوردي هو الضحيةَ الأولى، يدفع من قوتِ أطفاله ثمنَ التوتراتِ السياسية والصراعاتِ الحزبية.
تحوّلت أزمة الرواتب من ملفٍّ إداري إلى مأساةٍ إنسانية حقيقية؛ الموظف بلا دخلٍ ثابت، الأسواق في ركود، الطبقة الوسطى تنهار، ونسبُ الهجرة الداخلية والخارجية تتصاعد. والأسوأ من ذلك، أنّ هذا القطع المستمر للرواتب يعمّق شعورًا باللاعدالة والتمييز السياسي بين مكوّنات الشعب العراقي.
يتحدّث الدستور العراقي بوضوح عن العدالة في التوزيع والمساواة في الحقوق. فكيف يُقبل إذًا أن تتحوّل الرواتب إلى أداة عقاب؟ أليس ذلك خرقًا فاضحًا لمبدأ المواطنة المتساوية؟ وإذا كانت الخلافات بين بغداد وأربيل سياسية، فلماذا يُعاقَب الناس؟ لماذا لا يُحاسَب المسؤولون بدلًا من تجويع المواطن؟
حين يقارن الرئيس بارزاني بين ألم قطع الرواتب ومآسي الأنفال والكيماوي، فهو لا يُبالغ؛ بل يسلّط الضوء على حقيقةٍ مريرة: أن “التجويع” صار وسيلة “إبادةٍ” حديثة تُمارَس بربطةِ عنقٍ وبنصوصٍ قانونيةٍ ملتوية.
إنّ ما يحتاجه العراق اليوم ليس منحةً مؤقتة ولا راتبَ طوارئ، بل اتفاقًا دائمًا وعادلاً يضمن توزيع الموازنة بعدالة، ويفصل الاقتصاد عن النزاعات السياسية، ويضع ضماناتٍ دستورية تحمي أرزاق الناس من الابتزاز.
استخدام لقمة عيش المواطن الكوردي كورقة ضغطٍ سياسية هو جريمة أخلاقية قبل أن يكون تجاوزًا دستوريًا.
وصرخةُ بارزاني يجب أن تُقرأ كإنذارٍ وطنيٍّ صريح:
الانقسام لا يُصنع بالحدود أو بالعلم أو باللغة، بل حين يُشعَر المواطن بأنه من درجةٍ ثانية في وطنه، لا يُؤبه له إلا كورقة تفاوض.
فمتى يفهم الساسة أن تجويع الناس لا يصنع دولة.. بل يشعل ثورة؟