الديمقراطية كقناعة فكرية لا كممارسة شكلية: قراءة في التجربة العراقية

الديمقراطية كقناعة فكرية لا كممارسة شكلية: قراءة في التجربة العراقية
الديمقراطية كقناعة فكرية لا كممارسة شكلية: قراءة في التجربة العراقية

رغم مرور أكثر من عقدين على التحول السياسي في العراق واعتماد النظام الديمقراطي الفدرالي، ما زال الواقع السياسي يعاني من أزماتٍ بنيوية عميقة. تعود جذور هذه الأزمات في جوهرها إلى غياب التحول في الوعي السياسي الذي يواكب التغيير في النظام الدستوري. فالعقل السياسي التقليدي، الذي تشكل في ظل عقودٍ من التسلط والانقسام، ما زال يتحكم في إدارة السلطة، ويحول دون بناء مؤسساتٍ ديمقراطية مستقرة.

يهدف هذا المقال إلى تحليل ملامح أزمة العقل السياسي العراقي من منظورٍ كوردي، وبيان أن نجاح الفدرالية والديمقراطية في العراق مرهونٌ بتجديد الذهنية السياسية لدى النخب والمجتمع معاً، بوصفها الأساس الذي تُبنى عليه شرعية النظام وفاعلية مؤسساته.

أولاً: المقدمة:

لم يكن التغيير السياسي الذي شهده العراق بعد عام 2003 مجرد انتقالٍ من نظامٍ شمولي إلى آخر ديمقراطي، بل كان فرصةً تاريخية لإعادة تعريف الدولة والسلطة والمواطنة. غير أن هذه الفرصة لم تثمر عن بناء دولة مؤسسات حقيقية، لأن العقل الذي أدار التغيير ظلّ يحمل الموروث ذاته من المركزية والوصاية والولاء الشخصي.

لقد أُعيد تشكيل النظام، وكتب الدستور، وتوزعت السلطات بين المركز والأقاليم، إلا أن الذهنية السياسية التي تحكمت بالمشهد بقيت أسيرة الماضي. فالفدرالية، التي كان يفترض أن تكون وسيلةً لترسيخ الشراكة والمواطنة، تحوّلت في كثير من الأحيان إلى إطارٍ للنزاع السياسي، بسبب غياب ثقافة الحكم الاتحادي في الوعي العام.

من هذا المنطلق، تبدو الحاجة ماسة اليوم إلى إصلاح العقل قبل إصلاح النظام، لأن البناء الدستوري من دون وعيٍ سياسي جديد سيظل هيكلاً بلا روح، ونظاماً يتكرر في مضمونه وإن تغيّر في شكله.

ثانياً: أزمة العقل السياسي في التجربة العراقية:

العقل السياسي العراقي لا يزال متأثراً بإرث الدولة الريعية والسلطة الأبوية. فالنخب الحاكمة، وإن ارتدت ثوب الديمقراطية، ما زالت تمارس السياسة وفق منطق الغلبة والمصالح الضيقة. هذا العقل لم يتبنَّ فكرة الدولة كمؤسسة جامعة، بل ظلّ ينظر إليها من خلال منظار المكوّن أو الحزب أو الزعيم.

لقد أدى هذا النمط من التفكير إلى ضعف الثقة بين المواطن والدولة، وأنتج ظواهر سياسية غير مستقرة كالمحاصصة، والولاء الحزبي، وتضارب السلطات. ونتيجة لذلك، تحوّل النظام السياسي إلى ساحة لتقاسم النفوذ بدل أن يكون إطاراً للتكامل الوطني.

إنّ جوهر الأزمة ليس في النصوص الدستورية، بل في تفسيرها وتنفيذها بعقلية لا تؤمن بالمواطنة ولا بالشراكة الحقيقية. فالمؤسسات الدستورية تبقى عاجزة عن أداء وظائفها ما لم يتحرر الفاعل السياسي من إرث الماضي وثقافة الزعامة.

ثالثا: حدود التغيير البنيوي من دون تحول ذهني:

أثبتت التجربة العراقية أن التغيير البنيوي، مهما كان واسعاً، يظل قاصراً إذا لم يترافق مع تحولٍ في نمط التفكير السياسي. فإقرار الفدرالية وتنظيم الانتخابات ووجود دستور متقدم لم يمنع استمرار المركزية في القرار، ولا هيمنة الأحزاب على مفاصل الدولة.

إنّ المؤسسات السياسية الحديثة لا تعمل بفاعلية في ظل عقلٍ تقليدي؛ فالديمقراطية لا تقوم على النصوص وحدها، بل على ثقافة احترام القانون والإيمان بالمؤسسات. وقد كشفت السنوات الماضية أن غياب هذا الوعي جعل النظام السياسي العراقي يعيش حالةً من التناقض بين الشكل والمضمون، بين النصوص التي تتحدث عن المشاركة، والممارسات التي تعيد إنتاج الإقصاء والهيمنة.

رابعاً: تجديد الوعي السياسي كمدخل للإصلاح:

إنّ أي مشروع إصلاحي في العراق لا يمكن أن ينجح ما لم يبدأ من تجديد الوعي السياسي، أي من إعادة بناء منظومة القيم التي تحكم العلاقة بين المواطن والدولة. وهذا الوعي المنشود يقوم على ثلاثة أركان أساسية:

1.     إعادة تعريف السلطة بوصفها خدمة عامة لا أداة تسلط أو امتياز.

2.     ترسيخ مفهوم الشراكة الاتحادية على أساس التوازن والاحترام المتبادل بين المركز والأقاليم، لا على أساس الهيمنة أو التبعية.

3.     تعزيز ثقافة المواطنة بما يتجاوز حدود الانتماءات العرقية أو الطائفية.

من منظورٍ كوردي، يمثل تجديد الوعي السياسي ضرورة استراتيجية لضمان استقرار التجربة الفدرالية، إذ لا يمكن حماية المكتسبات الدستورية لإقليم كردستان إلا في ظل نظامٍ اتحادي يؤمن بالتنوع ويحترم التعدد. فالديمقراطية لا تتجذر إلا حين تتحول من ممارسة شكلية إلى قناعة فكرية في وعي الدولة والمجتمع.

خامساً: الخاتمة:

يُظهر المسار السياسي العراقي أن تغيير النظام لا يكفي لإنتاج إصلاحٍ حقيقي ما لم يترافق مع تجديد في العقل الذي يديره. فالأزمات المتكررة التي عرفها العراق بعد 2003 هي نتاج مباشر لبقاء الذهنية القديمة التي ترى في السلطة غايةً لا وسيلة، وفي الدولة غنيمةً لا مسؤولية.

إنّ التحدي الأكبر أمام العراق اليوم ليس في كتابة دستورٍ جديد أو تبديل شكل النظام، بل في بناء عقلٍ سياسي جديد يؤمن بالمواطنة، ويستوعب قيم الحكم الرشيد، ويجعل من الشراكة والتنوع أساساً للوحدة لا سبباً للانقسام.

حين يتحرر العقل السياسي من قيوده التاريخية، يمكن للنظام الديمقراطي أن يجد بيئته الطبيعية في الوعي الجمعي العراقي، وأن تتحول الفدرالية من إطارٍ سياسي إلى ثقافة حكمٍ اتحادية تعزز الاستقرار وتؤسس لمستقبلٍ أكثر عدلاً وتوازناً بين جميع مكونات العراق.