الكتل الورقية وماراثون الانتخابات البرلمانية العراقية
مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية العراقية، تبدأ ورشة «إعادة تدوير» الوجوه واليافطات السياسية في بغداد. لا أحد يتحدث عن برامج انتخابية أو إصلاحات، بل عن «تحالفات» و«تفاهمات» تُكتب على الورق وتمزّق على الورق. في هذا المشهد المكرر، تعود إلى الساحة ما يمكن تسميته بـ الكتل الورقية؛ تشكيلات بلا جمهور حقيقي، تُخلق في المكاتب، وتُعلن عبر بيانات وتصريحات، وتُدفن بعد الانتخابات بصمت.
الكتل الورقية ليست ظاهرة عابرة، بل أصبحت جزءاً من النظام الانتخابي العراقي نفسه. فهي تُستخدم لتجزئة الأصوات، وإعادة توزيع المقاعد داخل الخريطة المذهبية والإثنية، بما يخدم القوى التقليدية التي تتقن فن البقاء. كل كتلة صغيرة تمثل «ذراعاً» أو «ظلّاً» لكيان أكبر، لكنها تُقدَّم إعلامياً بوصفها مشروعاً جديداً للتغيير، بينما هي في الواقع وسيلة لاحتكار التمثيل وتفريغ المنافسة من معناها.
في هذا السباق الانتخابي الطويل، يشبه العراق متسابقاً يركض في حلقة مغلقة. الشارع فقد الإيمان بصناديق الاقتراع، بعدما رأى كيف تُفرز النتائج داخل غرف مغلقة أكثر مما تُفرز في صناديق شفافة. «ماراثون» الانتخابات ليس تنافساً ديمقراطياً بقدر ما هو اختبار للقدرة على البقاء داخل معادلة السلطة؛ من يملك المال، السلاح، أو الدعم الإقليمي، يضمن خط النهاية، مهما كان موقعه في بداية السباق.
أما المواطن العراقي، فهو يشاهد المشهد من المدرجات، يصفق حيناً ويصمت حيناً، يدرك أن الأصوات تُشترى بالوعود والولاءات، وأن التغيير لا يمر عبر صناديق الاقتراع، بل عبر إعادة تعريف السياسة نفسها. فحين تصبح الكتلة السياسية مجرد ورقة تُستخدم في المساومات، يفقد البرلمان معناه كمؤسسة تمثيلية ويتحول إلى سوق للمقاعد والمناصب.
في المقابل، تظهر بعض الأصوات المستقلة والشبابية تحاول خوض المعركة خارج دوائر النفوذ. لكنها تُحاصر بخنقٍ إعلامي ومالي، وتُدفع نحو التهميش أو الاستيعاب. فالنظام السياسي، بخبرته الطويلة، يعرف كيف يُعيد تدوير حتى المعارضة، ويحوّلها إلى «ملحق» داخل منظومته.
الانتخابات المقبلة لن تكون معركة بين الأفكار، بل بين القدرة على البقاء والاستمرار في اللعبة. اللعبة التي تتقنها الكتل الورقية، وتفشل فيها القوى الحقيقية لأنها لا تملك مفاتيح التمويل ولا رضا العرّابين. وهكذا يتحول البرلمان القادم إلى نسخة من السابقة، تُغيّر أسماءها وتحتفظ بنفس الجوهر: إعادة إنتاج الأزمة في قالب انتخابي جديد.
ربما آن الأوان للعراقيين أن يسألوا: هل نحتاج انتخابات جديدة، أم عقداً سياسياً جديداً يعيد المعنى إلى المشاركة، ويقطع الصلة بين الورقة الانتخابية والورقة السياسية؟ ففي بلدٍ تُصنع فيه الكتل على الورق، لا يمكن انتظار ولادة دولة من الحبر ذاته.