د. محمد صديق خوشناو
كاتب
ديناميات ما بعد الانتخابات: قراءة في مشهد الترشيحات وصناعة المناصب
مع إغلاق صناديق الاقتراع وظهور النتائج الأولية للانتخابات النيابية، يدخل العراق مرحلة جديدة لا تقل أهمية عن يوم التصويت نفسه؛ مرحلة تتشكل فيها الملامح الأولى للسلطتين التشريعية والتنفيذية، في ظل غياب كتلة تمتلك أغلبية مريحة تتيح لها تشكيل الحكومة منفردة. هنا يبدأ ما يمكن وصفه بـ ديناميات ما بعد الانتخابات، وهي عملية معقدة تتداخل فيها الحسابات الحزبية، وتبرز فيها لعبة الترشيحات بوصفها أداة سياسية مؤثرة في هندسة المشهد المقبل.
الترشيحات بين جسّ النبض وإدارة التوازنات
منذ اللحظات الأولى لإعلان نتائج الانتخابات، تتسابق القوى السياسية في طرح أسماء مرشحة لمناصب عليا داخل الدولة. غير أن هذه الترشيحات لا تعكس دائمًا نية حقيقية في منح تلك الشخصيات فرصة فعلية، إذ يجري استخدامها في كثير من الأحيان كوسائل لفتح أبواب التفاوض، أو لقياس ردود الأفعال، أو للدفع نحو رفع سقف المكاسب في أي اتفاق مرتقب.
وهكذا يصبح الاسم المرشح، في كثير من الأحيان، جزءًا من هندسة التوازنات أكثر منه مرشحًا فعليًا للمنصب.
استراتيجية “حرق الأسماء” كتكتيك سياسي
إحدى الظواهر البارزة في هذه المرحلة هي لجوء بعض القوى إلى طرح أسماء خصومها، لا دعماً لهم، بل لإحراجهم عبر دفعهم إلى إصدار مواقف رافضة بحق مرشحيهم المفترضين.
هذا الأسلوب المعروف بـ “حرق الأسماء” يُستخدم لإضعاف حضور تلك الشخصيات مستقبلًا، وإرباك الحسابات الداخلية للخصوم، ولخلط الأوراق على نحو يجعل المشهد أكثر تعقيدًا وتشابكًا.
بهذا تتحول الترشيحات من خطوة تنظيمية إلى أداة صراع سياسي تُصنع عبرها مكاسب، كما تُحرق عبرها فرص.
مرشحو الفرصة المستحيلة… أو سياسة صناعة الوهم
وفي المقابل، تظهر فئة أخرى من المرشحين الذين يبادرون بأنفسهم لطرح أسمائهم للمناصب العليا، رغم افتقارهم للحضور السياسي أو الخبرة الإدارية أو الدعم الحزبي.
تقوم هذه الفئة بحملات افتراضية مكثفة، عبر منشورات أو بيانات أو دعم إلكتروني من محيطهم الضيق، في محاولة لخلق انطباع بأنهم جزء من دائرة الترشيحات الحقيقية.
إنها ظاهرة يمكن وصفها بـ سياسة صناعة الوهم، حيث يتعامل أصحابها مع المنصب كفرصة محتملة لا تحتاج إلى تأهيل، بل إلى ضربة حظ أو التفاف افتراضي.
بين العالم الافتراضي والواقع السياسي
تُبرز هذه الظاهرة فجوة واسعة بين ما يجري في وسائل التواصل وبين الحقائق الفعلية التي تحدد مسار تشكيل الحكومة.
فبينما تنشغل بعض الصفحات بترشيحات وهمية، تبقى الكلمة الفصل للمفاوضات المغلقة، والاتفاقات بين القوى السياسية، والحسابات المتصلة بالتوازنات الوطنية، والخبرة، والسياق الإقليمي والدولي.
إن القرارات النهائية لا تُصنع في فضاء “فيسبوك”، بل في دهاليز السياسة التي تُدار بمعايير أكثر تعقيدًا مما يبدو للمتابع العادي.
خلاصة المشهد
إن مرحلة ما بعد الانتخابات ليست مجرد فترة انتقالية، بل هي مساحة تُكشف فيها طبيعة النظام السياسي بكل تفاصيله، حيث تتداخل المصالح، وتُطرح الأسماء، وتُدار معركة المواقع بين الفاعلين السياسيين.
وفي ظل غياب رؤية واضحة تُقدم الكفاءة على الحسابات الحزبية، يبقى المشهد عرضة لتكرار الفوضى نفسها في كل دورة انتخابية.
وحتى يتحقق الإصلاح الحقيقي، ستظلّ ديناميات الترشيحات إحدى أكثر المراحل سخونة في السياسة العراقية، مرحلة يتقدّم فيها الواقع على الطموح، وتُصنع فيها المناصب بعيدًا عن الضجيج الافتراضي.