مظفر مزوري
صحفي في مؤسسة كوردستان24
ميبس 2025.. مسرور بارزاني يرسم خارطة الواقعية السياسية والحلول الذاتية
شكلت مشاركة رئيس حكومة إقليم كوردستان، مسرور بارزاني، في منتدى السلام والأمن في الشرق الأوسط (MEPS 2025) العمود الفقري لأعمال المنتدى؛ حيث قدم خطاباً سياسياً واستراتيجياً تجاوز لغة الشكاوى التقليدية إلى لغة "الحلول والمبادرات". ركز بارزاني في طروحاته على فكرة جوهرية مفادها: "لكي ننجو في منطقة مضطربة، يجب أن نكون أقوياء من الداخل، وشركاء حقيقيين مع الخارج".
خرج مسرور بارزاني من "ميبس 2025" مكرساً صورته كـ "رجل دولة إصلاحي". لم يظهر بمظهر السياسي الذي يطلب المساعدة من العالم، بل ظهر كشريك يعرض الفرص. كانت رسالته الأبرز: "كوردستان تتغير، نعم نحن نعيش في فوضى إقليمية، لكننا نمتلك الخطة والإرادة لإدارة هذه الفوضى وتحويلها إلى فرص للبناء".
في توقيت دقيق يعيش فيه الشرق الأوسط مخاضاً عسيراً بين صراعات ممتدة وتسويات هشة، تحولت مدينة دهوك، عبر استضافتها للنسخة السادسة من منتدى السلام والأمن في الشرق الأوسط (MEPS 2025)، من مجرد حاضنة لحدث أكاديمي إلى غرفة عمليات سياسية مفتوحة، أعادت تعريف مفاهيم الاستقرار في المنطقة. تحت الشعار الجريء والواقعي "الفوضى المُسيّرة: شرق أوسط جديد"، لم تكن المداولات التي جرت بحضور أقطاب القرار في بغداد وأربيل، إلى جانب فاعلين دوليين وإقليميين، مجرد نقاشات نظرية، بل كانت بمثابة إعلان صريح عن نهاية حقبة "الاعتماد الكلي" على الحلول الخارجية، وبدء مرحلة "الواقعية السياسية" التي تفرض على دول المنطقة هندسة أمنها القومي بأدوات محلية وتفاهمات بينية.
لقد شكّل المشهد السياسي في المنتدى، الذي جمع زعيم الحزب الديمقراطي الكوردستاني مسعود بارزاني، ورئيس إقليم كوردستان نيجيرفان بارزاني ورئيس الحكومة مسرور بارزاني، مع رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني ورئيس مجلس القضاء الأعلى فائق زيدان، رسالة بالغة الدلالة عن طبيعة العلاقة الجديدة بين أربيل وبغداد. فقد أظهرت النقاشات العميقة تجاوزاً واضحاً لمرحلة "كسر العظم" التقليدية، نحو مأسسة العلاقة القائمة على معادلة "رابح-رابح".
بدا واضحاً أن النخبة السياسية في العراق وصلت إلى قناعة استراتيجية مفادها أن استمرار حكومة بغداد وقوتها مرهون باستقرار إقليم كوردستان، وأن الأمن القومي لكوردستان لا يمكن فصله عن العمق الاستراتيجي العراقي. وقد عزز حضور السلطة القضائية، ممثلة بالقاضي فائق زيدان، هذا التوجه، مانحاً التفاهمات السياسية بعداً شرعياً وقانونياً يُراد منه تحصين الاتفاقات من التقلبات المزاجية الحزبية، وتكريس الدستور كحكم فيصل، وهو ما يُعد تطوراً نوعياً في بنية النظام السياسي العراقي الذي طالما عانى من سيولة الاتفاقات.
وتركزت النقاشات العراقية حول محورين أساسيين، الاول، "السيادة والنأي بالنفس"، حيث أكد القادة العراقيون على ضرورة إبعاد العراق عن ساحة تصفية الحسابات الإقليمية والدولية، مع التشديد على أن استقرار العراق هو مفتاح استقرار المنطقة بأسرها.
أما المحور الثاني "العلاقة بين أربيل وبغداد": أتاح المنتدى فرصة للحوار المباشر لتقريب وجهات النظر حول الملفات العالقة (النفط، الموازنة، المناطق المتنازع عليها)، حيث سادت لغة "التفاهم" وضرورة الاحتكام للدستور والشراكة الحقيقية، خاصة في كلمة الرئيس مسعود بارزاني التي ركزت على "الثقة" كأساس للحل.
وعلى مستوى أعمق، نجح المنتدى في تفكيك شفرة "الفوضى المُسيّرة" التي صبغت عنوانه؛ إذ عكست المداخلات وعياً عميقاً بأن القوى الكبرى، وتحديداً الولايات المتحدة والغرب، باتت تميل إلى إدارة الأزمات في الشرق الأوسط بدلاً من حلها جذرياً، وهو ما يفرض على القوى المحلية، وتحديداً في العراق وسوريا، البحث عن بدائل ذاتية.
وفي هذا السياق، برز الملف السوري كأحد أعقد الملفات وأكثرها حساسية، حيث شكلت مشاركة قيادات رفيعة من قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والإدارة الذاتية، وعلى رأسهم الجنرال مظلوم عبدي، نقطة تحول في دور إقليم كوردستان كلاعب إقليمي وازن. لقد قدمت أربيل نفسها كمنصة وحيدة قادرة على تقارب وجهات النظر بين الفرقاء، طارحةً رؤية تقوم على أن استقرار "شرق الفرات" هو حاجة أمنية ملحة للعراق، وأن الحوار الكوردي - الكوردي، ومن ثم الحوار مع دمشق والجوار التركي، هو السبيل الوحيد لتجنيب المنطقة سيناريوهات كارثية قد تنجم عن أي انسحاب أمريكي مفاجئ أو تصعيد عسكري غير محسوب.
ولم تغب الجوانب القانونية والمجتمعية عن المنتدى. فقد خصصت مساحات لنقاش دور القضاء في تثبيت دعائم الدولة، حيث تحدث القاضي فائق زيدان عن أهمية استقلال القضاء في مواجهة الأزمات السياسية. كما عاد ملف المكونات والاقليات للواجهة، مع التركيز على مأساة الإيزيديين المستمرة، وضرورة تجاوز مرحلة "التعاطف" إلى مرحلة "العمل" لإعادة إعمار سنجار وتأمين عودة النازحين.
إضافة إلى ذلك، لم يغفل المنتدى البعد الاقتصادي والتنموي كركيزة للأمن؛ حيث برزت طروحات رئيس حكومة إقليم كوردستان مسرور بارزاني حول التنويع الاقتصادي والرقمنة والامن المناخي كجزء لا يتجزأ من منظومة الأمن القومي، مشيراً إلى أن الدولة الريعية لا يمكنها الصمود في وجه "الفوضى" العالمية.
وبهذا، خلص "ميبس 2025" إلى صياغة عقيدة سياسية جديدة للمرحلة المقبلة، قوامها أن "الاستقرار" في هذا الشرق الأوسط الجديد ليس منحة دولية، بل هو صناعة محلية تتطلب تقوية الجبهة الداخلية، وتصفير المشاكل بين بغداد وأربيل، وانتهاج سياسة خارجية متوازنة تحمي العراق من أن يكون ساحة لتصفية حسابات الآخرين، وتؤهله ليكون نقطة التوازن والالتقاء في شرق اوسط مضطرب.
وخلص المشاركون في "ميبس 2025" إلى أن الشرق الأوسط الجديد يتشكل الآن، ولكنه يتشكل تحت وطأة الضغوط الاقتصادية والتحولات المناخية والتهديدات الأمنية الهجينة.
لقد نجح منتدى دهوك "ميبس 2025" في جمع الأضداد وتقريب وجهات النظر، مقدماً رؤية مفادها أن "الفوضى" وإن كانت "مُسيّرة" من قبل قوى كبرى، فإن "الاستقرار" يجب أن يكون صناعة محلية تبدأ من التفاهمات الداخلية في بغداد وأربيل، وتمتد لتشمل الجوار الإقليمي. كانت الرسالة الأبرز من الجامعة الأمريكية في دهوك: "الحوار ليس ترفاً، بل هو طوق النجاة الوحيد في بحر الشرق الأوسط المتلاطم".