نوزاد شيخاني: المخرج الذي ينقل بكاميراته التراث الكوردي إلى الذاكرة السينمائية العالمية

نوزاد شيخاني:  المخرج الذي ينقل بكاميراته التراث الكوردي إلى الذاكرة السينمائية العالمية
نوزاد شيخاني: المخرج الذي ينقل بكاميراته التراث الكوردي إلى الذاكرة السينمائية العالمية

يمثّل المخرج والباحث السينمائي نوزاد شيخاني أحد أبرز الأصوات التي وثّقت التراث الإيزيدي والذاكرة الكوردية في العراق. حمل شيخاني على عاتقه خلال العقود الماضية مهمة إيصال مأساة شعبه إلى العالم عبر السينما، مستندًا إلى إرث عائلي طويل في الطب والتوثيق وخدمة المجتمع.

تكشف سيرته الشخصية والمهنية ملامح رحلة إنسانية وثقافية معقدة بدأت في بلدته الشيخان، وامتدت إلى ألمانيا، ثم عادت لتتجذر في الذاكرة الدولية بعد كارثة سنجار عام 2014.

وهومخرج ومنتج سينمائي شارك في مهرجانات دولية مرموقة مثل مهرجان "كان"، وتجربته السينمائية تعكس التنوع وقدرة الفيلم الكوردي على المنافسة عالميا .يتحدث هنا فى لقاء خاص جدا لـ"كوردستان24".

والدى طبيبا فى بارازان 

كانت البداية عائلية حيث ارتباطه وعائلته ببارزان يقول نوزاد شيخاني أن كل ما يتعلق بالنقاشات الدائرة حول مصطلحي “الإيزيدي” و“الكوردي” ليس موضع اهتمامه الفني، رغم ما أُثير خلال السنوات الأخيرة من التباسات وهواجس بعد سقوط النظام العراقي السابق. ويقول إنه لا يستخدم تعبير “الكوردي الإيزيدي” أو “الكوردي المسلم”، بل ينطلق من حقيقة تاريخية ثابتة يتمسّك بها الباحثون في المنطقة: الإيزيديون من السكان الأصليين لوادي الرافدين، وأن جزءًا كبيرًا من الكورد كانت جذورهم إيزيدية قبل عشرات القرون، وهو أمر معروف لدى أبناء المنطقة.

ويشدّد على أن كل ذلك خارج نطاق اهتمامه الفني، لأن مشروعه الأساسي يظل مشروعًا إنسانيًا وثقافيًا وسينمائيًا.

من بين المحطات التي شكّلت شخصية نوزاد المبكرة، كانت تجربة والده الطبيب المعروف، الذي أمضى سنوات طويلة منذ أواخر الخمسينيات وحتى الستينيات طبيبًا شخصيًا لعائلة البارزاني في منطقة بارزان، وعلى رأسهم الزعيم التاريخي الملا مصطفى البارزاني.

رافق الوالد العائلة في تنقلاتها ووثّق عبر كاميرته الفوتوغرافية تفاصيل كثيرة عن حياتها وأبنائها، من بينهم الرئيس مسعود بارزاني وشقيقه الراحل إدريس بارزاني، إضافة إلى سكان المنطقة وعاداتهم. كتب الوالد مذكرات غنية عن تلك التجربة، وصوّر عشرات الصور النادرة التي أصبحت لاحقًا جزءًا مهمًا من أرشيف العائلة وتاريخ المنطقة.

 

توثيق الطقوس الإيزيدية… امتداد لرسالة الأب

خلال تنقّلات الأب في المناطق الإيزيدية — من سنجار حتى بعشيقة وبحزاني، مرورًا بـ شارية وحتارة وشيخان — كان يحرص على تسجيل الطقوس الدينية والاحتفالات الشعبية والملابس التقليدية. بدأ التوثيق بالكاميرا الفوتوغرافية، ثم انتقل إلى التصوير السينمائي والفيديو مع ظهور الأجهزة الحديثة. وكان الوالد من أوائل من امتلك كاميرا فيديو ملوّنة محمولة في العراق عام 1983، وهي كاميرا National M1 التي اشتراها من السوق الحرة، وكانت نقلة كبيرة في توثيق التراث.

لم يكتفِ الوالد بالتصوير، بل قدّم تحليلات مكتوبة حول أصول الطقوس وربط بينها وبين طقوس الحضارات الرافدية القديمة، خصوصًا السومريين. ويضرب نوزاد مثالًا بطقس “إيشك”، وهو مسح بوابات المعابد بالزيت المقدس، وهو طقس يمارَس حتى اليوم، وتطابقه الأدلة مع الطقوس السومرية القديمة. كذلك يشير إلى التشابه الكبير بين اللباس الإيزيدي التقليدي وملابس سكان سومر، وهو مجال ما زال بحاجة إلى دراسات موسعة.

الطفولة في بيت يعشق الثقافة

نشأ نوزاد في بيت مملوء بالثقافة، حيث كان والده يغرس في أبنائه قيمًا أساسية: المحبة، التسامح، احترام التراث، وخدمة الوطن من خلال المعرفة والتوثيق. هذه القيم، كما يقول، شكّلت شخصيته وصنعت مساره الفني لاحقًا.

وفي الثمانينيات أسّس مع شقيقه الأصغر شرزا مكتبًا للإنتاج الفني في الشيخان، وكان واحدًا من أوائل المكاتب المستقلة في العراق. عمل الأخوان مع والدهما على استكمال مشروع التوثيق، ولا سيما في معبد لالش، المعبد الأقدس للإيزيديين في العالم، حيث صُوّرت طقوس وأعياد وممارسات نادرة بكاميرات فوتوغرافية وسينمائية.

البداية الأولى مع السينما

كانت المصادفة هي الباب الذي قاد الطفل نوزاد إلى عالم التصوير السينمائي. فحين كان في المرحلة الابتدائية، جاء عدد من طلبة معهد الفنون الجميلة إلى المنطقة لتصوير مشروع تخرجهم بين الشيخان ومعبد لالش. شارك الطفل نوزاد في التمثيل إلى جانب ممثلين معروفين، وهناك شاهد للمرة الأولى الكاميرات والإخراج والفريق الفني، فاشتعل شغفه بالسينما.

بعدها انتسب إلى نقابة الفنانين العراقيين، وحضر دورات تدريبية متنوعة، كما استفاد من المراكز الشبابية التي كانت منتشرة آنذاك في العراق لتنمية مهارات الشباب في الفن والرياضة والموسيقى. ثم التقى لاحقًا بالمخرج المعروف فيصل ياسري في بغداد، وحضر ندوات ودورات تدريبية أكسبته خبرة مبكرة في مجال الإخراج.

الهجرة إلى ألمانيا… منعطف الحياة

في عام 1997 غادر نوزاد العراق نهائيًا إلى ألمانيا، هربًا من الظروف السياسية والحروب المتلاحقة. وعند وصوله إلى ميونيخ، وجد نفسه أمام خيارين: دراسة الهندسة المدنية، أو الدراسة في أكاديمية لصناعة الأفلام.

اختار السينما دون تردد، لأنه شعر بأن خدمة شعبه وتراثه ستكون عبر الكاميرا، وليس عبر الهندسة. التحَق بأكاديمية ماكرو ميديا الشهيرة في ميونيخ، حيث درس تقنيات صناعة الفيلم، وصوّر مشاريع قصيرة، وكان مشروع تخرجه فيلمًا صُوّر في تونس. بعد الدراسة عمل في عدة استوديوهات ألمانية بارزة، من بينها استوديو RTL، كما أسس ستوديوهات مستقلة في أكثر من مدينة ألمانية.

الزلزال الكبير… إبادة سنجار 2014

تشير حياة نوزاد إلى أنّها انقلبت رأسًا على عقب في 3 أغسطس 2014، عندما تعرّض الإيزيديون لمجزرة الإبادة الجماعية على يد تنظيم داعش في سنجار. ويتحدث بحرقة عن تلك الأيام:
“نوزاد شيخاني قبل الإبادة ليس هو نفسه بعد الإبادة. ما رأيناه من قتل وسبْي للنساء وخطف الأطفال يفوق قدرة العقل البشري على التخيل.”

فور وقوع الكارثة، استقال من كل مهامه في ألمانيا، بما فيها عمله في استوديو أوروبا ومن مهامه كمصور مرافق للرئيس مسعود بارزاني في زياراته الخارجية. غادر إلى مناطق قريبة من سنجار، وبدأ بتوثيق الدمار باستخدام الدرون، وهو أول شخص يطلق درون فوق سنجار تحت سيطرة داعش، رغم إطلاق النار المتواصل على الطائرة.

جمع نوزاد مواد مصوّرة من عشرات القنوات والمصورين ومن الهواتف المحمولة للناجين، ثم أنتج أول فيلم وثائقي كامل عن الإبادة بعنوان “الفرمان الأسود – The Black Massacre”. وقد أصبح الفيلم مرجعًا مهمًا، واعتمدته محكمة الجنايات الدولية في لاهاي كوثيقة أرشيفية رسمية عن الإبادة.

 

فيلم "تورن"... من الوجع إلى العالمية

قبل كارثة سنجار، كان نوزاد يعمل على فيلم روائي طويل بعنوان “تورن”، يتحدث عن الإبادات المتكررة للإيزيديين ونتائجها على الهوية الانتمائية للأجيال. بدأ تصويره بين جورجيا والعراق منذ عام 2013، وبعد وقوع إبادة داعش أعاد كتابة السيناريو لربط أحداث الفيلم بالكارثة الجديدة، مع الحفاظ على الخط الدرامي الرئيسي.شارك الفيلم في عشرات المهرجانات الدولية بين 2018 و2024،

وحصد جوائز عديدة:

•أفضل فيلم أجنبي في مهرجان Hollywood International Moving Pictures

•أفضل سينماتوغرافيا

•أفضل فيلم في ريو دي جانيرو

•الجائزة الكبرى في مهرجان بالمغرب

•أفضل إخراج في مهرجان الإسكندرية السينمائي، في مسابقة نور الشريف

كان من المقرر عرض الفيلم جماهيريًا في ألمانيا عبر سلسلة سينمات Dome، لكن جائحة كورونا أدت إلى إغلاق دور العرض لعامين كاملين. وبين 2022 و2025، أعاد نوزاد مونتاج الفيلم بالكامل بتقنيات حديثة، وأصدر نسخة جديدة بعنوان “Torn – Back to Roots” (تورن – العودة إلى الجذور

“رقصة الخلاص” المشروع الجديد

يعمل نوزاد حاليًا على مشروعه الروائي الجديد “إفلين – رقصة الخلاص”، الذي يتناول مأساة السبايا الإيزيديات. يعتمد الفيلم على أكثر من 150 مقابلة أجراها شخصيًا مع ناجيات من سنجار، إضافة إلى مواد مكتوبة وسمعية حول تجارب الألم والعنف والعبودية.

يقول نوزاد:إفلين ليست فتاة واحدة، بل هي رمز لكل إيزيدية خُطفت، ولكل امرأة في العالم تتعرض للقهر والاغتصاب والاضطهاد.”

السيناريو جاهز، والمشروع مطروح أمام شركاء دوليين للحصول على دعم يضمن إنتاج فيلم عالمي برسالة إنسانية مؤثرة. وقد تقدّم المشروع في سوق أفلام مهرجان كان السينمائي هذا العام، ولاقي اهتمامًا واسعًا من شركات إنتاج أمريكية وأوروبية.

الحضور الدولي… لجان التحكيم وتدريب المواهب

شارك نوزاد شيخاني في المهرجانات الدولية كرئيس أو عضو لجنة تحكيم، كما قدّم ورشًا تدريبية وماستر كلاس في الإخراج وصناعة الفيلم وكتابة ملفات التمويل الخاصة بالمشاريع السينمائية. ويحرص، كما يقول، على نقل خبرته إلى صناع السينما الشباب في الشرق الأوسط وأوروبا، من أجل تعزيز الوعي الإنساني والثقافي من خلال الفن السابع.