أزمة التمثيل في العراق: بين الأرقام والمقاعد

أزمة التمثيل في العراق: بين الأرقام والمقاعد
أزمة التمثيل في العراق: بين الأرقام والمقاعد

أربيل (كوردستان 24)- لم يكن التعداد العام للسكان لعام 2024 مجرد عملية إحصائية روتينية، بل كان مرآة حقيقية لواقع العراق، يُظهِر حجم التحوّلات الديموغرافية التي لم تعد القوانين الانتخابية الحالية قادرة على استيعابها.

فبينما أظهرت الأرقام الجديدة صورة دقيقة للسكان، ظلّ مجلس النواب والمفوضية العليا المستقلة للانتخابات يتعاملان مع توزيع المقاعد وكأن البلاد لم تتغيّر، وكأن الحقيقة التي تحملها البيانات يمكن تجاهلها أو تهميشها.هذه الأزمة لم تولد فجأة، بل تراكمت عبر أربعة انتخابات متتالية منذ 2010، حيث اعتمدت الحسابات على تقديرات وزارة التخطيط وسجلات وزارة التجارة الورقية، التي لم تعكس الحركة السكانية الفعلية.

النتيجة كانت خللاً تراكمياً في التمثيل النيابي، منح بموجبه بعض المحافظات مقاعد تفوق حجمها السكاني، بينما حُرمت محافظات أخرى من استحقاقها الطبيعي، في تلاعب غير معلن بتوزيع القوى داخل المؤسسة التشريعية.

تعداد 2024 وانتخابات 2025 كشفا فجوة حقيقية بين السكان والمقاعد، وفجوة أخرى أكثر خطورة في قيمة صوت الناخب؛ حيث أصبح صوت المواطن في محافظة ما يساوي ضعف صوت نظيره في محافظة أخرى، في تناقض صارخ مع مبدأ المساواة السياسية الذي تقوم عليه الديمقراطيات.

أزمة تمثيل تتجاوز القانون إلى جوهر الدولة

التمثيل النيابي ليس مجرد توزيع مقاعد، بل هو صمام شرعية الدولة نفسها. المعادلة واضحة: عدد السكان = حجم التمثيل. وأي انحراف عن هذه المعادلة يعني انحرافاً عن روح الدستور وأساس العملية السياسية.
اليوم، نرى محافظات ارتفع عدد سكانها بشكل واضح لكنها لم تحصل على أي مقعد إضافي، بينما تستمر محافظات أخرى في الاحتفاظ بمقاعد تفوق وزنها الحقيقي. هنا يتحوّل البرلمان من مرآة للشعب إلى مرآة لمن صاغ قوانين الانتخابات ودوائرها، لا لمن يعيش على أرض العراق ويمنحه الحياة والعدد.

المقعد المسروق… ليس رقماً بل إرادة مُلغاة

في الفلسفة السياسية، يُعدّ "التمثيل الناقص" شكلاً من أشكال الإقصاء، لكن ما نشهده اليوم أبعد من مجرد نقص؛ إنه إقصاء مقنّن. المقعد الذي يُحجب عن محافظة تستحقه ليس خطأً فنيًا، بل غياب لصوت وفكرة وحق سياسي كان ينبغي أن يكون حاضرًا. وفي المقابل، المقعد الذي يُمنح لمحافظة فوق وزنها الديموغرافي هو امتياز سياسي قائم على خلل قانوني وترتيبات قديمة، لا على إرادة الشعب.
البرلمان… حين يتخلّى الحارس عن دوره.

كان من المفترض أن يكون مجلس النواب أول من يلتقط إشارات التعداد، وأن يبادر إلى تعديل قانون الانتخابات لتصحيح المسار. لكن الصمت كان سيد الموقف، وتفضيل الاستقرار السياسي الظاهري على العدالة الحقيقية أصبح نهجاً متكرراً، وكأن الحفاظ على توازنات هشّة أهم من الحفاظ على شرعية التمثيل الشعبي.الخلل الذي تراكم طوال سنوات ليس قدرًا، بل قرارًا: قرار بالصمت، وقرار بتمرير معادلات تخدم بعض القوى على حساب أخرى.

المفوضية… بين حيادٍ مطلوب وترددٍ مقلق

المفوضية العليا المستقلة للانتخابات كان يُفترض أن تنحاز إلى أدق وثيقة رسمية في الدولة: التعداد السكاني. لكنها تمسكت بنصوص جامدة على حساب العدالة الانتخابية، وتحولت من حارسة لإرادة المواطن إلى جهاز إداري يخشى الاقتراب من الحقيقة، خشية زعزعة المعادلات التي اعتادتها القوى السياسية.

قوة صوت الناخب… حين يتفكك مبدأ المساواة

الخلل لا يتوقف عند المقاعد، بل يمتد إلى أساس العملية الانتخابية: قيمة صوت الناخب. كيف يمكن قبول نظام يكون فيه صوت في محافظة ما مضاعف القيمة مقارنة بصوت في محافظة أخرى؟ هذا الخلل ليس مجرد مسألة تقنية، بل أخلاقية، يمس جوهر الديمقراطية ومفهوم المواطنة.

تشريع قانون جديد… أولوية عاجلة

كل ما كشفه التعداد، وكل ما فضحته انتخابات 2025، يقود إلى استنتاج لا مفر منه: يجب تشريع قانون انتخابي جديد ومعدّل، يكون في مقدمة أولويات مجلس النواب. قانون يقوم على:

•    تطبيق مبدأ العدالة الانتخابية.

•    توحيد قيمة صوت الناخب بين جميع المحافظات.

•    معالجة الخلل المتراكم منذ 2010.

•    استبدال التقديرات بالحقائق، والظنون بالأرقام.

•    بناء تمثيل نيابي يعيد الثقة بين المواطن والدولة.

فلا شرعية بلا عدالة، ولا عدالة بلا قانون يُنصف الجميع بلا استثناء.

خاتمة: الحقيقة لا تُحاصر

التعداد قال كلمته بوضوح، والواقع تغيّر، لكن المقاعد بقيت محاصرة داخل قوانين قديمة لا تعترف بتحوّل المجتمع. ومن يظن أن الحقيقة يمكن أن تُخفى داخل جداول قديمة، فالأرقام مهما طال انتظارها، ستخرج لتقول من يستحق ومن لا يستحق.

طالما أن التمثيل لا يعكس السكان، والقانون لا يعكس المساواة، وقيمة الصوت تختلف من محافظة إلى أخرى، فإن الديمقراطية تبقى لغة جميلة بلا مضمون، وشرعية الدولة تصبح مجرد غلاف مؤقت، ينتظر لحظة الانكشاف.