زيارة تاريخيّة إلى شرناخ: حضور مسعود بارزاني وكشف ملامح وحدة الكورد في زمن التحوّلات

زيارة تاريخيّة إلى شرناخ: حضور مسعود بارزاني وكشف ملامح وحدة الكورد في زمن التحوّلات
زيارة تاريخيّة إلى شرناخ: حضور مسعود بارزاني وكشف ملامح وحدة الكورد في زمن التحوّلات

لم يكن انحيازي يومًا قائمًا على الانتماء السياسي، ولا على مهنتي الأدبية التي سبقت مساري الأكاديمي، ولا على اختلاطي الطويل بأدب الشعب الكوردي، ولا فضلًا بين مذهبٍ ثقافي وآخر. إنما هو انحياز واحد ووحيد لحقيقة لا تتجزأ: أن الكورد، أينما كانوا، ينتمون إلى أصل واحد، وإلى وحدةٍ راسخة، وإلى أمّة عريقة استطاعت أن تصمد رغم العواصف، وأن تحافظ على وجودها في زمنٍ صارت فيه الحدود مفتوحة أمام الجميع، وزمن صار التواصل الاجتماعي فيه قادرًا على إيصال الصوت إلى العالم في اللحظة نفسها.

لقد أصبح العالم اليوم بلا جدران، وصارت المعلومة تسافر من قرية صغيرة في كوردستان إلى أبعد بقاع الأرض في ثوانٍ معدودة. ومع ذلك، يبقى التواضع الحقيقي عند القادة ظاهرة نادرة؛ قليلون هم من يمتلكون القدرة على الإصغاء للناس، وعلى الوقوف بينهم دون حواجز، وقليلون أكثر من يملكون الجرأة على أن يتحدّثوا بصدق، وأن يسمعوا بالفتحة والضمة كما يسمعها رجل الشارع البسيط. ولهذا، تكتسب بعض اللحظات السياسية قيمتها من صدق أصحابها لا من ضجيج المحافل.

وفي خضمّ هذا الزمن المتغيّر، برز حدثٌ لافت حمل في طياته دلالاتٍ رمزية عميقة، تمثّل في الانتعاش الواضح لأجواء السلام بين كوردستان وتركيا، وفي الخطوات العملية التي باتت تُتخذ في هذا الاتجاه. وقد بدت القيادات الكوردية متجاوبة مع هذه الروح الجديدة، محرّكةً عجلة الحوار بما ينسجم مع حاجة الشعب إلى الهدوء والاستقرار.

لكن الحضور الأبرز والأكثر تأثيرًا كان هذا العام هو حضور الرئيس مسعود بارزاني في شرناخ، ضمن المؤتمر الرابع الخاص بالشيخ ملايى جزيري، ذلك الرمز الشعري والفلسفي الذي عاش سبعين عامًا وخلّف إرثًا لم يسبقه إليه أحد، ولن يخلفه بديل بسهولة. حضور بارزاني لم يكن بروتوكولًا ولا دعوة عابرة، بل كان كسرًا للحدود الرمزية، وخروجًا من الإقليم إلى شرناخ الواقعة ضمن حدود الدولة التركية، في لحظة سياسية حسّاسة، وبزيّه الكوردي التقليدي وهيبته المعهودة.

وقف الرئيس أمام المايكروفونات بثبات، متحدّثًا عن ملا جزيري، عن حياته وشعره وفلسفته، وعن وحدته الروحية التي جمعت الكورد منذ القرن السادس عشر حتى اليوم. لم يكن الحديث مجرّد كلمات، بل كان استحضارًا لذاكرة مشتركة تمتد من عام 1570 حتى 1640، ذاكرة صنعت وجدانًا كورديًا واحدًا لا تفصله الجغرافيا ولا تمنعه الحدود من أن يبقى متماسكًا.

وما زاد المشهد تأثيرًا أن بارزاني استعاد أبياتًا من شعر ملا جزيري، وردّدها بلسانٍ حافظٍ لها، وفهمٍ عميق لمعانيها، وبأسلوبٍ لا يملك إلا أن يلفت انتباه الحاضرين. تواضعه في إلقاء تلك الكلمات جعل المشهد استثنائيًا؛ إذ كان يقف بوقار القائد الذي يعرف حجم الإرث الذي يحمله، ويعرف أيضًا أنّ القوة ليست في السلطة ولا العتاد، بل في احترام رموز الأمة.

إن مشاركة الرئيس بارزاني في هذا المحفل السنوي، في نسخته الرابعة، بهذا الحضور الواسع للجمهور، وبالعبارات التي خرجت من القلوب قبل الأفواه، وبما نقلته الفضائيات الكوردية من مشاعر الناس وردود أفعالهم، جعلتني أشعر أنني أمام لحظة فارقة، حتى وإن كنت أتابع الحدث عبر شاشة التلفاز. كنت أستمع مرة إلى الكلمات الصادرة من قاعة المؤتمر، ومرة إلى أصوات الناس خارج القاعة، وأخرى إلى تحليلات المراسلين والمهتمين. وكلما تقدّم اليوم، كان يتعزّز لديّ شعور بأن هذه الزيارة تحمل ما هو أبعد من مجرّد مشاركة رسمية.

الجو الإيجابي الذي خيّم على شرناخ خلال الزيارة كان لافتًا؛ روح المصالحة، والانفتاح على المستقبل، والاستعداد لبناء التفاهم بين الكورد في كل أماكن وجودهم. بدا وكأنّ هناك رغبة حقيقية في تبادل الزيارات، وفي إعادة جسور التواصل بين مناطق كوردستان التاريخية. ولعلّ ما دفعني أكثر للكتابة هو الشعور بأنّ هذا الحدث ليس عابرًا، وأنّه يحمل في طيّاته مقدّمات لمرحلة جديدة من التقارب.

لقد تكررت الدعوات خلال اليوم إلى إطلاق سراح السيد عبدالله أوجلان، وإلى فتح أبواب الحوار، وإلى أن يكون الغد يومًا أفضل للكورد جميعًا. ورغم حساسية هذا الملف سياسيًا، إلا أنّ حضوره في الخطاب الشعبي يعكس توق الناس إلى السلام، وإلى أن يعيشوا في أمن وكرامة، بعيدًا عن الصراع الذي أنهك المنطقة لعقود طويلة.

ومع أن الحديث طويل، إلا أن الوقائع التي رافقت هذا الحدث كانت كثيرة ومتسارعة، ومن بينها ما ظهر في قضية خرائط Google التي أدرجت كركوك ضمن حدود كوردستان، وما أثاره ذلك من جدل واسع. وكذلك المشهد الجميل لجمهور نادي زاخو وهم يهتفون بصوت واحد، غير ملتفتين إلى اختلاف الألوان السياسية، في لحظة نادرة من الوحدة الرياضية والشعبية.

لكن الحدث الأكبر بلا شك كان وصول الرئيس مسعود بارزاني إلى شرناخ، وما رافقه من استقبال جماهيري ورسائل رمزية وسياسية وثقافية عميقة. لقد كان الحدث أشبه بإعادة قراءة للتاريخ، وبإعادة وصلٍ لما انقطع بين أجزاء الأمة الكوردية. فشرناخ ليست مكانًا عابرًا، بل هي جزء من ذاكرة كوردستان، ومذكورة في القرآن الكريم، ومحفوظة في كتب التراث، حاضرة في الأغاني الشعبية والحكايات القديمة.

كان حضور بارزاني أشبه بعودة الروح إلى المدينة، وبإعلان غير مكتوب بأن الكورد، رغم كل التغيّرات، أمّة واحدة. وأن التواصل بينها ليس ترفًا، بل حقًا طبيعيًا وتاريخيًا. ومع أن السياسات الحديثة فرضت حدودًا، إلا أن هذه الحدود لم تستطع أن تلغي المشترك الذي يجمع الناس، ولا أن تمنع الشعر من أن يكون جسرًا، ولا الفلسفة من أن تكون نورًا.

إنّ ما جرى في شرناخ لا يمكن اختزاله بزيارة رسمية، ولا بخطاب، ولا بمؤتمر عن شاعر عظيم مثل ملا جزيري. إنه حدث مركّب، سياسي وثقافي واجتماعي وروحي، يفتح الباب أمام مرحلة جديدة. وربما أمام سلام أكبر ننتظره جميعًا، سلامٌ يتجاوز الخلافات، ويعيد إلى الكورد مكانتهم التي يستحقونها.

وأنا أكتب هذه الكلمات، كنت أستحضر المشاهد التي مرّت على الشاشة: وجوه الناس، حرارة الاستقبال، فرحة الأطفال، دموع كبار السن، الشعراء الذين تلو أبيات ملا جزيري، صوت بارزاني وهو يؤكد قيمة الأدب ودور القادة المتواضعين، وإحساس الجميع بأنّ شيئًا مهمًا يحدث هنا، في هذه المدينة التي تحمل من التاريخ ما يكفي لتكون رمزًا دائمًا للوحدة.

إنه يومٌ من أيام كوردستان المضيئة، يومٌ بدا فيه المستقبل أقرب، والسلام ممكنًا، والوحدة حقيقة لا حلمًا.
ولعلّ الأيام المقبلة تحمل ما هو أفضل.