لا يا باخجلي… تسرّعتَ ووقعتَ في فخّ التاريخ

لا يا باخجلي… تسرّعتَ ووقعتَ في فخّ التاريخ
لا يا باخجلي… تسرّعتَ ووقعتَ في فخّ التاريخ

لم يكن خافياً علينا، نحن الذين نتابع الشأن السياسي عن قرب، أن تصريحاتكم بشأن حلّ القضية الكوردية في تركيا لم تكن يوماً نابعة من قناعة حقيقية أو نية جادّة. فمنذ اللحظة الأولى، بدا واضحاً أن كلماتكم ليست سوى فقاعات في الهواء، مجرّد شعارات عابرة لا تستند إلى إرادة سياسية صادقة. لقد كنّا نعلم تماماً أن الدولة، رغم ما كانت تبديه في العلن، تخطُ في الخفاء خطوات حقيقية باتجاه حلّ قضية عمرها عقود طويلة، قضية أُريق فيها الكثير من الدم بين الكورد والترك.

وعندما ظهرت ملامح جدّية لحلحلة هذا الملف، وبدأت المؤشرات الإيجابية تلوح في الأفق، لم يستوعب قلبكم – كما تقولون – أن تتحول الأمور إلى واقع جديد قد يغيّر وجه المنطقة. وعلى عكس ما ادّعيتم، لم تكن مطالبكم في تلك المرحلة سوى محاولة استباقية لركوب موجة الحلّ، بينما كانت الأرض قد بدأت تمهَد فعلاً من أطراف أخرى تمتلك النية الصادقة.

لقد كان الكورد في إقليم كوردستان – العراق، منذ البداية، على الخط بشكل واضح، يدعمون أي خطوة تُفضي إلى إحلال السلام بين الشعبين الكوردي والتركي. فباستثناء بعض الأطراف التي كانت تتغذى على النزاع، كانت القيادات الكوردية في الإقليم ترى أن إنهاء هذا الصراع التاريخي هو مصلحة للجميع، وأن الطريق إلى السلام لا بد أن يُفتح مهما طال الزمن. وبفضل هذا الانفتاح، بدأت ملامح مرحلة جديدة تتشكّل، مرحلة اختلط فيها الأمل بالواقعية، وبدأت الأجواء في الشارعَين التركي والكوردي تتّجه نحو التهدئة، بل نحو الإيمان بأن السلام ممكن فعلاً.

وجاءت زيارة الرئيس مسعود بارزاني إلى جزيرة بوتان - تركيا  كإحدى أهم الإشارات السياسية الداعمة لهذه المسيرة. فالزيارة لم تكن بروتوكوليةً فحسب، بل حملت رسائل واضحة في الأخوّة، ودعماً علنياً للسلم الداخلي، وتأكيداً على أهمية تفعيل الثقافة الكوردية في تركيا كجسر يربط بين الشعبين لا كسدّ يزيد الفجوة بينهما. وقد استقبل الأتراك والكورد معاً تلك الزيارة بوصفها خطوة شجاعة وضرورة تاريخية لإعادة بناء الثقة.

وعندما بدأت الخطوات الجدية تُترجم على أرض الواقع، وظهر أن تطوراً حقيقياً يحدث بين الطرفين، بين الكورد والترك، بدا أن الحبل قد بدأ يتحرك فعلاً باتجاه مستقبل جديد. وتجلى ذلك أيضاً في الملفات الإقليمية الأخرى، فالقضية الكوردية في سوريا وفي تركيا بدت وكأنها تتجه نحو مرحلة حلّ أو على الأقل نحو انفراج ملحوظ، فيما كانت ملامح النجاح تزداد وضوحاً. وحتى التغييرات السياسية المتوقعة في المنطقة كانت تشير إلى احتمالات جديدة، وربما مصيرية.

لكن، وكما يحدث دائماً عندما تقترب الحلول من النضج، تظهر أصوات تريد قلب الموازين وإعادة الأمور إلى المربع الأول. وهذه الأصوات لم تكن سوى محاولة يائسة لإيقاف عجلة التاريخ. ومع ذلك، كنّا ندرك أن ما أُنجز كان كبيراً، وأن الأطراف الرئيسة في المعادلة – ومنهم السيد أوجلان من جهة، والرئيس أردوغان من جهة أخرى – كانوا منخرطين في المسار بشكل مباشر، وربما بدعم أو بصمت من دول كبرى ترى في الاستقرار حلاً أفضل من استمرار النزاعات.

في تلك اللحظة تحديداً، ظهر تصريحكم يا باخجلي حول حضور الرئيس في جزيرة بوتان  ومراسيم عن (مەلایێ  جزيري) ، وما تبع ذلك من ضجّة واسعة. ومع أن الجو العام كان يسير نحو التهدئة، إلا أنكم لم تتحمّلوا هذا المشهد، فظهرت حقيقتكم للترك أولاً وللكورد ثانياً. لقد انكشف أنكم كنتم تعيشون في صراع داخلي بين ما تقولونه علناً وما تتمنونه فعلياً، فوقعتُم في الفخّ الذي نصبه التاريخ لكم: فخّ التناقض بين الخطاب والموقف، وبين الادّعاء والحقيقة.

لقد خسرتم الكثير في تلك اللحظة، ليس لأنكم عبّرتم عن رأي، بل لأنكم فوّتّم على أنفسكم فرصة تاريخية كان يمكن أن تتحول إلى مكسب لكم ولتركيا معاً. كنتم تستطيعون أن تكونوا جزءاً من مسار السلام، وربما بطلاً من أبطاله، وربما حمامة سلام كما يحبّ السياسيون أن يصوّروا أنفسهم في لحظات التحوّل. لكنكم فضلتم الانحياز إلى الماضي بدل المستقبل، وإحياء الخوف بدل الأمل. وهكذا، بدلاً من أن تكتبوا اسمكم في صفحة إنجاز، كتبتموه – للأسف – في قائمة من وقفوا ضد حركة التاريخ.

إنّ ما حصل كان كفيلاً بأن يضعكم في مواجهة حقيقية مع الجماهير، لا سيما بعد أن تفوّهتم بكلمات ظننتم أنها ستبقى مجرّد زلّة لسان، لكنها تحوّلت إلى واقع سياسي أثقل كاهلكم. لقد ظهر زيف الخطاب وتهافت الحجج، ولم يعد ممكناً تغطية الشمس بغربال، فالناس رأوا الحقيقة، والكورد والترك معاً عرفوا من أين جاءت الضوضاء التي حاولت أن تعكّر صفو اللحظة.

وها نحن اليوم نرى نتائج تلك المرحلة، ونرى أن عجلة السلام وإن تباطأت أحياناً، لكنها لم تتوقف. وأن مسيرة الحلّ، مهما واجهت من عراقيل، صارت جزءاً من وعي المجتمعَين ومن إرادة الأطراف الفاعلة. وفي المقابل، بقيتم أنتم عالقين في خطاب قديم، خطاب يكشف أكثر مما يخفي، ويضرّ أكثر مما ينفع.

لذلك نقولها بصراحة:
لا يا باخجلي… لقد تسرّعتَ، ووقعتَ في فخّ التاريخ.
فمن يعاند الزمن يخسر، ومن يعارض السلام يُعزل، ومن يقف ضد إرادة الشعوب يتحول – ولو بعد حين – إلى مجرد صفحة مشوّهة في ذاكرة الأجيال.