سارة طالب السهيل
كاتبة عراقية
طفولة تضيئها الشاشات الزرقاء وجيل يتعلّم الحياة من خلف النوافذ
لم تعد طفولة اليوم تشبه طفولة الأمس.
صار الطفل يولد وأمامه شاشة قبل أن يتعرف على رائحة التراب، ويحفظ شكل الرموز والأيقونات قبل أن يتقن شكل الحروف.
في اليوم العالمي للطفل، كنت أتحدث دوما عن الحقوق الأساسية مثل التعليم، الرعاية، الصحة و عن اللاجئين و النازحين من الأطفال و الأطفال في مناطق الحروب والنزاعات و الكوارث والمجاعات وأيضا تكلمت كثيرا عن أساليب تربية الأطفال وتعديل سلوكهم والحفاظ عليهم من العنف والإنزلاق إلى هاوية الإرهاب والتطرف وتحدثت كثيرا عن غرس القيم الحميدة وحب الوطن والانتماء والتسامح وغيرها
ولكن هناك حقًا آخر يهاجمنا بصمت وهو حق الطفل في أن يعيش طفولته كاملة، دون أن تسرقها الأجهزة الصغيرة التي تضيء باللون الأزرق.
نحن اليوم أمام جيل يعيش في عالمَين لا يلتقيان بسهولة
عالم واقعي يحتاجه لينمو بجسده وحسه، وعالم رقمي يجذبه بقوة تفوق إدراكه، حتى يصبح الملاذ والرفيق والحديقة البديلة التي يلعب فيها.
فحولنا طفل صغير يعيش حياة لا تناسب سنّه وتجعله يقفز سنوات ولمن يعتقد أن هذا أمرا جيدا أقول له أن
القصة تبدأ عادة بجهاز صغير يُسلّم للطفل كي ينشغل أو يهدأ، ثم يتسع العالم الافتراضي من حوله شيئًا فشيئًا حتى يصبح حياةً داخل الحياة.
طفل لم يبلغ السابعة، لكنه يستطيع أن يتنقّل بين العوالم الإلكترونية أسرع مما يتنقل بين غرف البيت.
تقول تقارير اليونيسف إن ثلث أطفال العالم يدخلون الإنترنت قبل دخولهم المدرسة، وإن الطفل يمضي بين أربع إلى سبع ساعات يوميًا أمام الشاشة.
هذه الأرقام ليست زينةً للمقال… بل إشارات حمراء تحذر إن طفولة كاملة تتشكل خارج الواقع.
قبل هيمنة الشاشات، كانت الطفولة تبدأ من الحارة، وتكبر مع شجرة يتسلقها الطفل، أو لعبة يصنعها من خشبة، أو جرح صغير على الركبة يصبح ذكرى. المغامرات الجميلة التي شكلت الذكريات من ألعاب تفاعلية على أرض الواقع في الشارع في البيت في الحديقة في الملعب.
أما اليوم فد تغيّر المشهد بشكل درامي فأصبح
اللعب في الهواء الطلق بتراجع فاق ال 70% مقارنة بجيل الثمانينات، وواحد من كل خمسة أطفال لم يلمس التراب في لعبة حقيقية.
جيل كامل بدأ ينسى رائحة الأرض، لأن العالم الرقمي أسرع… لكنه هشّ، ينهار بضغطة زر، ولا يبني ذاكرة حقيقية.
في منصات التواصل، بات الطفل يتعلم أن صورته أهم من لعبه، وأن إعجاب الآخرين أهم من شعوره.
أصبح طفل اليوم يقيس قيمته بما تقوله الشاشة
دراسات كثيرة تشير إلى أن 76% من الأطفال يشعرون بالقلق إن لم يحصلوا على إعجابات كافية، وأن 69% يتصرفون في الإنترنت بطريقة مختلفة عن حقيقتهم خوفًا من الرفض.
هنا يبدأ الخطر الحقيقي
بأن ينمو الطفل وهو مقتنع بأن قيمته تُحدد بالأرقام، لا بذاته.
الخطر الأكبر ليس في التكنولوجيا نفسها، بل في أن يعيش الطفل حياة كاملة خلف الشاشة من دون أن يعرف أهله ما الذي يراه أو يشعر به.
فكأن طفل اليوم يعيش العالم الخفي الذي لا يراه الكبار
فأربعون بالمئة من أطفال 8 إلى 12 عامًا لديهم حسابات في مواقع لا يفترض أن يدخلها من هم دون 13 عامًا، ومع كل ساعة إضافية أمام الشاشة ترتفع احتمالات القلق والاكتئاب بنسبة تزيد عن 30%. نحن لا نخسر الوقت فحسب بل نحن نخسر ملامح الطفولة نفسها.
طفلنا العربي يقف في قلب عاصفة معقّدة
مدرسة لا تواكب سرعة العصر، تكنولوجيا بلا توجيه، وبيئة تُخطئ فهم المشاعر وتعتبر البوح ضعفًا.
لذلك بات العالم الرقمي بالنسبة لكثير من الأطفال مساحة يجدون فيها حرية وسندًا لا يجدونه في الواقع.
إحصاءات عديدة تقول إن العلاقات الواقعية بين الأطفال انخفضت بنحو 40%، وإن نصف الأطفال بين 11 و16 عامًا يعتبرون أقرب أصدقائهم موجودين خلف الشاشة، لا على مقاعد الدراسة.
فهذه ليست أزمة لعب… بل أزمة انتماء وحاجة عاطفية لم تجد من يلبيها.
فالأرواح تاهت في زحام العوالم الفارغة والمشاعر الإنسانية بدأت في مرحلة التقلص والتعاطف مع الاخرين اصبح شيئا نادرا و كأنما الناس بدأت تتحول الى روبوتات
فحماية الطفل اليوم حماية لروحه قبل عينيه فالجميع حين يتحدث عن مضار العوالم الافتراضية يتحدث عن قيمة الوقت المهدور و تأثيره على تحصيله الدراسي وعلى نظره وأوجاع ضهره وعلى تعرضه للسمنه وقلة الحركة والابتعاد عن النشاط البدني و الرياضه والعزله والتوحد مع الذات ولكن الكثير تجاهل الروح التي أصبحت باهته شيئا فشيئا
ولكن في هذا الزمن الذي سيطرت التكنولوجيا على كل جوانبه
لم يعد منع التكنولوجيا حلًا، فالعالم يمشي إليها بسرعة لا يمكن إيقافها.
لكن الحماية الحقيقية تبدأ من إعادة التوازن
بأن يعرف الطفل أن التكنولوجيا أداة، لا وطنًا بديلًا.
وأن الذكريات تُصنع بالضحك الحقيقي، لا بالفلاتر. وان الدنيا يجب ان تختبر بكافة تفاصيلها الجميلة لنلمس أوراق الشجر و نشتم الورود وتتسلق الشجر لنجتمع حول الحطب في رحلة برية لنرسم على الحيطان وجوه الجيران ولنفرح مع الأصدقاء بقدوم مولودهم الجديد ولنبكي مع أستاذنا إذا تعرض لمكروه ولنساعد أمهاتنا ونكون لهم عونا فلنخوض الحياة بتفاصيلها الجميلة فلنحرص على ان نبقي إنسانيتنا
الطفل يحتاج إلى من يعلمه أن العالم خارج الشاشة يستحق أن يُكتشف، وأن قيمته لا تُقاس بعدد المشاهدات بل بما يحمله قلبه.
كيف نعيد للطفولة جذورها؟
في البيت
• وضع وقت محدد وواضح للشاشات لا يتجاوز ساعات بسيطة يوميًا.
• إعادة إحياء الألعاب القديمة: الجري، الرسم، اللعب خارج المنزل.
• مشاركة الأهل للمحتوى الذي يشاهده الطفل بدل تركه وحيدًا.
• تشجيع هوايات حقيقية تمنحه إحساس الإنجاز بعيدًا عن ضغوط الإنترنت.
• حوار يومي صادق عن مشاعره وتجربته الرقمية.
في المدرسة
• تعليم التربية الرقمية كمهارة أساسية.
• تنظيم أنشطة جماعية تُعيد للأطفال معنى الصداقة الواقعية.
• خلق مساحات آمنة للتعبير حتى لا يلجأ الطفل للعالم الافتراضي ليحتمي به.
وفي المجتمع
• تطوير التعليم ليصبح أكثر تفاعلية.
• حملات توعية للأهل حول أثر الشاشات على النمو.
• إعادة الاعتبار للمشاعر كجزء من التربية، لا كعلامة ضعف.
في النهاية…
حماية الطفل اليوم لا تعني إغلاق الشاشة، بل فتح نافذة واسعة على العالم الحقيقي.
الطفولة ليست مرحلة عابرة، بل جذور تُغرس في الروح وتعيش معه عمرا كاملا
وما لم يُزرع في أرض الواقع… لن ينمو في ضوء الشاشة الزرقاء.