سارة طالب السهيل
كاتبة عراقية
التضامن الإنساني ليس بخير
نقر جميعاً أن عالمنا يعيش فوق صفيح ساخن من الصراعات والأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية الطاحنة، وهو ما يجعله أيضاً في أشد الحاجة لالتقاط الأنفاس والبحث عما ينفع الناس ويحقق مصالحهم وأمنهم الصحي والغذائي والمهني والتعليمي. وهذا لا يمكن تحقيقه بمعزل عن التضامن والتعاون والتكافل الإنساني.
من هنا تأتي أهمية الاحتفال باليوم العالمي للتضامن الإنساني في 20 من ديسمبر سنوياً، منذ أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2005، لتعزيز الوعي بأهمية التضامن الإنساني ودوره في تحقيق العدالة الاجتماعية والقضاء على الفقر.هذا اليوم فرصة ذهبية لدعم كافة الجهود الإنسانية والتنموية والتعاون الدولي لتحقيق التنمية، والاحتفاء بوحدة الإنسانية في إطار من التنوع. وهو فرصة للمشاركة في أعمال التطوع ودعم المبادرات المجتمعية وحث الحكومات على تعزيز التزاماتها الدولية بحق الفقراء والمنكوبين من الصراعات والحروب والكوارث الطبيعية في شتى بقاع الأرض.
لا أحد ينكر حقيقة أن الرأسمالية المتوحشة قد عصفت بكيان الشعوب ودمرت أحلام البسطاء في العالم، وقضت تقريباً على الطبقة المتوسطة إلى الحد الذي يمكن القول معه أنه لم يعد من هذه الطبقة إلا القليل، بعدما سحقت الطبقات الفقيرة تحت سطوة الكيانات الاقتصادية الكبرى، فارتفعت رقعة الفقر في كثير من البلدان، خاصة في مناطق النزاعات والحروب والكوارث الطبيعية.
لكن هذا التضامن الأخلاقي الوجداني، الذي تحث عليه فطرتنا وشرائعنا، لن يبلغ مداه ولن يحقق غايته ما لم يتحول من مشاعر تعاطف إلى فعل مؤسسي منظم، ومن ردود أفعال مؤقتة إلى سياسات هيكلية عادلة. إن مواجهة "الرأسمالية المتوحشة" وتبعاتها تتطلب أكثر من الإغاثة؛ فهي تتطلب مراجعة جذرية للنظام الاقتصادي الدولي الذي يكرس الفوارق، من خلال آليات التجارة غير المتكافئة، وأعباء الديون الخارجية الخانقة على الدول الفقيرة، وهيمنة الشركات عابرة القارات التي تضع الربح فوق كرامة الإنسان وسلامة الكوكب.
كذلك، فإن التضامن مع ضحايا الصراعات لا يعني فقط إرسال المعونات بعد اندلاع الحروب، بل منع اندلاعها من الأساس عبر معالجة جذورها من خلال العدالة السياسية والإنصاف في توزيع الموارد، ووقف تجارة الأسلحة التي تغذي نيران الحروب، ودعم الحلول السياسية الشاملة التي تحقق مصالحة حقيقية وليس انتصاراً لفصيل على آخر. كما أن التضامن مع متضرري الكوارث الطبيعية، مثل فيضانات غزة أو جفاف القرن الأفريقي، يجب أن يعترف بحقيقة مفادها أن هذه الكوارث قد أصبحت أكثر عنفاً وتكراراً بسبب أزمة المناخ العالمية، والتي تتحمل فيها الدول الصناعية الكبرى النصيب الأكبر من المسؤولية التاريخية. لذلك، يجب أن يترجم التضامن إلى التزامات ملموسة من هذه الدول بتمويل مشاريع التكيف المناخي والتعويضات في الدول الأكثر تضرراً والأقل مساهمة في الأزمة، وهو ما يعرف بـ "العدالة المناخية".
وهنا يأتي الاحتفاء باليوم العالمي للتضامن الإنساني ليذكرنا بحقيقة أن الإنسانية لا تزال تحمل بداخلها كوامن الخير وقيم الرحمة والتعاون والتضامن، وأن هذه الخيرية قد تغفو لكنها لا تموت، وقد تفتح الباب لاستعادة كل أشكال الخير لبني الإنسان ومساعدته ونجدته في الأزمات.
في هذا اليوم، يجب أن تستعيد الشعوب والحكومات قيم العدالة الاجتماعية وتفعيلها على أرض الواقع، ببذل المزيد من الجهود الحكومية والأهلية لمكافحة الفقر ودعم التنمية البشرية للقضاء على البطالة وصون الكرامة الإنسانية.
ولكي لا يظل التضامن مجرد أمنية أو شعاراً مؤثراً، فإنه يحتاج إلى ترجمة عملية على جميع المستويات:
على مستوى الأفراد: يمكن أن يبدأ التضامن من الباب المجاور، بمساعدة الجار المحتاج، والتطوع في مؤسسة خيرية محلية، والاختيار الواعي لمنتجات "التجارة العادلة"، والترويج لقضايا إنسانية عبر وسائل التواصل بمسؤولية. إن تبرعاً صغيراً عبر منصات التمويل الجماعي الموثوقة يمكن أن يجمع ليشكل فرقاً كبيراً في حياة أسرة بمنطقة نزاع.
وعلى مستوى المجتمع المدني والمؤسسات الأهلية: يتجلى التضامن بتعزيز التعاون الشبكي بين الجمعيات، وتبادل الخبرات، وخلق مبادرات تنموية مستدامة تولد دخلاً وتوفر فرص عمل، بدلاً من الاكتفاء بالإغاثة المؤقتة. كما أن للقطاع الخاص مسؤولية اجتماعية يمكن من خلالها توجيه جزء من الأرباح لدعم مشاريع التنمية البشرية والتعليم والصحة في المجتمعات المحرومة.
و على مستوى الحكومات: يجب أن يتحول التضامن إلى سياسة خارجية واستراتيجية تنموية. وهذا يعني الوفاء بالتعهدات الدولية مثل تخصيص 0.7% من الدخل القومي الإجمالي للمساعدة الإنمائية الرسمية، ومراجعة سياسات الهجرة واللجوء لجعلها أكثر إنسانية، والضغط الدبلوماسي من أجل وقف الانتهاكات في مناطق النزاع، واعتماد سياسات ضريبية واجتماعية داخلية تقلل الفجوة بين الأغنياء والفقراء.
على المستوى الدولي: هناك حاجة ملحة لإصلاح وهيكلة المؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة ومجلس الأمن والمؤسسات المالية الدولية، لجعلها أكثر تمثيلاً للدول النامية وأكثر قدرة على فرض حلول عادلة بدلاً من تأبيد هيمنة القوى الكبرى. كما أن تفعيل مبادئ مثل "المسؤولية عن الحماية" وتبني مفهوم "الأمن الإنساني" الشامل يمكن أن يغير أولويات العمل الدولي.
وقد أكدت الأديان السماوية على أهمية تحقيق التضامن والتكافل الإنساني. ففي الإسلام، نجد الحثّ القوي على التعاون كما في قوله تعالى: "وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان"، وفي الحديث النبوي الشريف: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعي له سائر الجسد بالسهر والحمى". وفي المسيحية، نجد المبدأ الإنساني العظيم في مثَل السامري الصالح، الذي جعل من مساعدة الغريب والمنكوب - بغض النظر عن دينه أو عرقه - قدوة أخلاقية خالدة. فالتعاون بين أفراد المجتمع من أجل تحسين المعيشة وتحقيق العدالة دون تمييز بين عرق أو لون أو جنس أو عقيدة هو أساس متين في جميع الشرائع. فالتضامن يبنى على التكافل الاجتماعي الذي يشمل كافة مناحي الحياة، بل إنه من أساس الإيمان كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". وهذا الحب مرهون بإيمان الإنسان بالعدالة بين الناس وحقهم المشترك في حياة كريمة دون تمييز، مصداقاً لقول رسول الله: "الناس سواسية كأسنان المشط لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى".وكما دعت الأديان السماوية لقيمة التضامن فإن الإنسانية المعاصرة قد اهتدت لهذه القيمة مثل إقرارها من جانب الأمم المتحدة. وفي هذا اليوم يجب أن نحيي خلق التضامن ونكرس لرحمة الإنسان بأخيه الإنسان، والشعور بالمسؤولية المشتركة تجاه المستضعفين في كل مكان بالعالم متجاوزين بذلك كل الحدود الجغرافية المصطنعة للدول، والتعاون معاً لمساعدة المحتاجين وتخفيف معاناتهم في كل مكان بالعالم.
أرجو في هذا اليوم أن نتجاوز الأنانية وحب السلطة والتملك واستعباد البشر بأجور زهيدة في أماكن العمل، يوماً تنفتح فيه قلوب الخيرين من كل ملة ودين وإنسانية لتدشين مشروعات تنموية تستوعب طاقات العاطلين عن العمل بأجور مجزية لجهودهم، ويستفيد منها الفقراء والمحتاجون، وتوفير الرعاية الصحية لهم، ونجدة المعزولين في مناطق الصراعات والحروب والكوارث الطبيعية وإمدادهم بالطعام والملابس والأغطية التي تدفئهم في ليالي الشتاء القارص.
في هذا اليوم يمكن لكل جار أن يقدم لجاره المسكين حفنة من المال كي يشتري لصغاره قطعة من الحلوى تفرحهم وتوقظ الأمل بالعدل والرحمة في قلوبهم الصغيرة.
أتمنى أن يكون العشرون من ديسمبر الجاري فرصة لإيقاظ ضمير الإنسانية كلها، لتقديم مساعدات عاجلة وناجزة لإخواننا في السودان الذي يتعرضون لإبادة جماعية على أيدي بني جلدتهم، والضغط على المجتمع الدولي لإيقاف نزيف دمائهم الطاهر، ووقف الاقتتال الوحشي والهمجي، وسرعة إمداد من فر من السكان إلى المناطق المهجورة في الجبال والصحاري بالغذاء والماء والدواء والأغطية.
ينسحب هذا الأمل على إخواننا في غزة، خاصة بعد أن أغرقت السيول والأمطار خيامهم وحولت أرض هذه الخيام إلى مستنقعات مائية تسببت في موت الكثير منهم، لنهب جميعاً حكومات وشعوباً لنجدتهم وسرعة توصيل خيام جديدة وأغطية وطعام ومؤن لتدفئتهم، هم وكل من تعرضوا لكوارث طبيعية من زلازل وأعاصير.
بل إنه يمكننا استثمار هذا اليوم المبارك في تحقيق العدالة الاجتماعية بدعم تعليم الفقراء والمعوقين جسدياً وعقلياً، ومساعدة كبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة في شراء احتياجاتهم اليومية وتوفير العلاج اللازم لهم.
لا شك أن أوجه تحقيق التضامن الإنساني والتعاون له أوجه كثيرة ويمكن تحقيقها على مستوى الأفراد والجماعات والمؤسسات والدول. حيث يمكن لمنظمات العمل الأهلي جمع التبرعات من أموال وأدوية وأغطية وإرسالها للمتضررين من الكوارث الطبيعية، وتشجيع الميسورين في العالم على إيجاد أماكن لإيواء المتضررين والمشردين من الكوارث الطبيعية كالفيضانات وتوزيع الغذاء عليهم وتوفير فرص عمل للناجين، بجانب إعانة الملاجئ والمحتاجين في مناطق الصراع والنزاعات.
وعلى الصعيد الدولي يمكن التعاون في إرسال فرق الإنقاذ والمساعدة للدول المنكوبة، وجمع التبرعات لعلاج الأمراض الخطرة مثل السرطان والملاريا والإيدز.
ويظل الإعلام عنصراً فاعلاً في نشر الوعي بهذا اليوم من خلال تذكير الحكومات بالالتزامات والاتفاقيات الدولية في هذا الشأن لتحقيق العدالة الاجتماعية وتبني قضايا الفقراء والمعوزين والانتصار لحقهم الإنساني في المساواة في حياة كريمة.
في هذا اليوم، وفي كل يوم، ليس التضامن خياراً أخلاقياً فحسب، بل هو ضرورة وجودية لإنسانيتنا المشتركة. إنه الجسر الذي يجب أن نبنيه فوق هوة الأنانية والصراع. لنقتد بالحكمة الإسلامية والقيم السماوية والإنسانية جميعها، ولكن لنذهب بها خطوة أبعد: من القلب إلى العقل، ومن العاطفة إلى الاستراتيجية، ومن العطاء الفردي إلى العدالة الهيكلية. لنطالب، ونعمل، و نبني معاً. فلنكن ذلك الجسد الواحد الذي وصفه النبي الكريم، لا في الألم فحسب، بل وفي الفعل والبناء والخلاص. بهذا نستحق اسم "الإنسان"، وبهذا يصبح التضامن الإنساني قوة دافعة لا تقهر نحو عالم لا يترك فيه أحد خلف الركب.