د. سامان سوراني
أكاديمي كوردي
افتتاح أكبر قنصلية أمريكية في إقليم كوردستان، قراءة تحليلية في رسائل واشنطن ومكاسب الإقليم
يمثل افتتاح أكبر قنصلية أمريكية في إقليم كوردستان خطوة ذات دلالات سياسية عميقة، تتجاوز إطار تعزيز العلاقات الدبلوماسية التقليدية لتلامس المستوى الاستراتيجي في مقاربة الولايات المتحدة للإقليم وللمنطقة ككل. فالمجمع القنصلي، بحجمه واستثماراته وبُناه الأمنية واللوجستية، ليس منشأة عابرة، بل رسالة واضحة بأن واشنطن تتعامل مع إقلیم كوردستان كأحد مراكز الثقل السياسي والأمني في العراق والشرق الأوسط.
تأتي أهمية القنصلية الجديدة من أنها تعكس تحوّلاً في أولويات السياسة الخارجية الأمريكية.
فبعد سنوات من النزاعات الإقليمية وعدم الاستقرار، تبدو الولايات المتحدة أكثر ميلاً إلى بناء شراكات مستقرة طويلة الأمد، بدلاً من التدخلات العسكرية المباشرة. وفي هذا السياق، يبرز إقليم كوردستان لعدة أسباب، منها الاستقرار السياسي والأمني، الذي جعله نقطة ارتكاز منذ الحرب على داعش و قابلیة تعاون الإقلیم في ملفات الأمن والطاقة والاستثمار ووجود قيادة حكومية براغماتية قادرة على إدارة علاقات متعددة الاتجاهات دون صدام مع المصالح الأمريكية.
يتّضح إذن أن واشنطن تنظر للإقليم كبيئة آمنة ومستقرة يمكن الاستثمار فيها، وكشريك موثوق في لحظة يشهد فيها الشرق الأوسط إعادة توزيع لمراكز النفوذ.
ولا يمكن تجاهل أن اختيار الولايات المتحدة لبناء واحدة من أكبر قنصلياتها في العالم في أربيل يحمل رسالة جيوسياسية واضحة، منها وجود طويل الأمد لا يرتبط بتغير الحكومات الأمريكية، تحويل الإقليم إلى نقطة اتصال مع برامج التنمية والمساعدات والمؤسسات الأمريكية و تعزيز قدرة واشنطن على مراقبة الوضع الإقليمي من موقع آمن وحيوي.
إنها ليست مجرد قنصلية، بل منصة عمليات سياسية واقتصادية وأمنية، ما يعني أن واشنطن تراهن على الإقليم كركيزة استقرار في محيط مضطرب.
يرتبط الاهتمام الأمريكي بالإقليم بفكرة أن كوردستان يشكل نموذجاً مختلفاً نسبياً عن محيطه، عبر حماية التعددية الدينية والقومية وإعتماد سياسات تحافظ على الأمن الداخلي وتقديم نموذج معدّل لدولة القانون والتنمية.
هذا النموذج يخدم، من منظور واشنطن، مصالحها في بناء فضاءات مستقرة يمكن التعويل عليها اقتصادياً وأمنياً.
أما أحد العناصر البارزة في صعود مكانة الإقليم لدى الولايات المتحدة هو الدور المباشر لرئيس الحكومة في أربيل. فقد تبنى دولة الرئیس مسرور بارزاني سياسة دبلوماسية نشطة تعتمد على فتح قنوات تعاون جديدة، وتطوير الشراكات القائمة، والاندماج في الاقتصاد الدولي.
وتأتي الصفقة الاقتصادية التي جرى الإعلان عنها مع كبريات الشركات الأمريكية في قطاعي النفط والغاز، بقيمة تُقدر بأكثر من 110 مليارات دولار كأحد المؤشرات على نجاح هذه السياسة. أهمية هذه الصفقة لا تكمن في حجمها فحسب، بل في دلالاتها، منها إعادة تثبيت الإقليم على خريطة الطاقة العالمية وإظهار الثقة الأمريكية ببيئة الاستثمار في كوردستان وتعزيز الشراكة الأمريكية–الكوردستانية على أساس المصالح الاقتصادية المتبادلة، وليس فقط التعاون الأمني.
يمضي إقليم كوردستان بخطوات محسوبة نحو توسيع مكانته الدولية، مستفيداً من شبكة علاقاته المتوازنة وقدرته على جذب اهتمام القوى الكبرى. وتحمل القنصلية الأمريكية الجديدة دلالة مركزية في هذا المسار، فهي تُعد اعترافاً دولياً متزايداً بمكانة الإقليم و دعماً سياسياً مباشراً من القوة الأكثر تأثيراً في النظام الدولي. ونافذة لتوسيع التعاون في التكنولوجيا والطاقة والأمن والبنية التحتية.
وفي الختام، لا يمكن قراءة افتتاح أكبر قنصلية أمريكية في الإقليم بعيداً عن سياق أوسع يعاد فيه تشكيل توازنات المنطقة.
فالولايات المتحدة ترسل رسالة بأنها باقية، وأن الإقليم شريك موثوق في مرحلة تتطلب استقراراً ووضوحاً. وفي المقابل، يستثمر إقليم كوردستان هذا الزخم لتعزيز حضوره الدولي وبناء علاقات مبنية على المصالح المشتركة والتحالفات الاستراتيجية. إنها خطوة تتجاوز الرمزية، وتؤسس لعلاقة أكثر عمقاً وتأثيراً بين الجانبين، سيكون لها أثر واضح في السنوات المقبلة على موازين القوة والاستقرار والتنمية في المنطقة.