الكوردية نعيمة الأيوبي أول محامية في مصر والعالم العربي !
على امتداد عقود طويلة، رسّخت الذاكرة الإعلامية المصرية اسم مفيدة عبد الرحمن بوصفها أول محامية مصرية، حتى أصبح هذا الاعتقاد أشبه بحقيقة لا جدال فيها. غير أنّ العودة إلى الوثائق والشهادات التاريخية، وإلى أرشيف الصحافة المصرية، تكشف عن رواية مختلفة تمامًا؛ رواية تؤكّد أنّ السبق الحقيقي يعود إلى امرأة أخرى لم تنل ما تستحق من تقدير، امرأة حملت إرثًا كورديًا أصيلاً، وحققت إنجازًا استثنائيًا ظلّ غائبًا عن الضوء طويلًا.
هي المحامية الكوردية المصرية نعيمة الأيوبي، ابنة المؤرخ الكردي إلياس الأيوبي، وأول امرأة ترتدي روب المحاماة في مصر والعالم العربي، وأول من قُيّد رسميًا في نقابة المحامين. اليوم، يعيد الباحثون والمؤرخون والمؤسسات الرسمية — ومنها المجلس القومي للمرأة — الاعتبار إلى هذه الرائدة، ويؤكدون أنها صاحبة الريادة الحقيقية، وأن التاريخ الإعلامي هو من ظلمها ولم ينصف دورها.إذ سجل فى وثائقه أنها أول محامية وليس كما كان شائعا أنها مفيدة عبد الرحمن .
جذور كوردية... وهوية واضحة
ولدت نعيمة الأيوبي عام 1909 لأسرة ذات جذور كوردية عريقة تعود إلى سلالة الأيوبيّين، الذين ينتمي إليهم القائد الشهير صلاح الدين الأيوبي. ينحدر والدها إلياس الأيوبي — المؤرخ والصحفي المعروف — من قبيلة الروادية الكوردية، وقد عاش متنقّلًا بين عكا ولبنان ومصر، وترك أثرًا واسعًا في التاريخ والكتابة العربية. هذه الجذور لم تكن مجرد نسب عابر، بل كانت جزءًا من الهوية التي حملتها نعيمة، وبقيت حاضرة في سيرتها وشخصيتها ووعيها الثقافي. ورغم أن نشأتها كانت في محيط مصري خالص، فإن أصولها الكوردية ظلّت مذكورة في الوثائق الرسمية، وفي كتابات المؤرخين، وفي شهادات المستشارين والباحثين، الذين أكدوا أن نعيمة الأيوبي لم تكن فقط أول محامية مصرية، بل أيضًا أول محامية كوردية في تاريخ العالم العربي.
طفولة ودراسة وصمود
وُلدت نعيمة في الإسكندرية، وتلقت تعليمها الابتدائي في مدرسة محرم بك الابتدائية، ثم انتقلت إلى القاهرة لتتابع تعليمها الثانوي بمدرسة البنات بالحلمية الجديدة. كانت محبة للعلم منذ طفولتها، وقد كوّنت حلمها المهني في سنّ مبكرة، إذ تقول: “منذ رأيتُ عمّي محاميًا، يفخر برداء المحاماة على أي شيء آخر في الحياة، أدركت أنني أريد أن أكون مثله.” في وقت كان تعليم الفتيات محدودًا، والجامعة محظورة عليهن تقريبًا، كانت نعيمة تمتلك شجاعة استثنائية. ففي عام 1929، تقدمت — مع أربع فتيات أخريات — للالتحاق بجامعة فؤاد الأول (القاهرة حاليًا). واجهت الفتيات معارضة اجتماعية جارفة، فلجأن إلى وزير المعارف آنذاك، عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، الذي دعمهن واشترط الصمت التام حتى لا يتدخل الرأي العام ويعرقل قبولهُن. وبالفعل، لم يعلن خبر قبولهن إلا بعد أن أصبح رسميًا لا رجعة فيه، في خطوة وصفتها نعيمة بأنها كانت “مؤامرة ناجحة من أجل العلم”.
سنوات الدراسة... عزلة وصوت ثائر
دخلت الفتيات الخمس الجامعة في جوّ من الدهشة والرفض الاجتماعي. تقول نعيمة في مقالها المنشور بمجلة “الاثنين والدنيا” عام 1945: “كان الجميع يراقبنا، كأننا مخلوقات عجيبة تظهر على الأرض للمرة الأولى… كنا نتحاشى الاختلاط، ونتحدث همسًا، ونسير على استحياء.” لكن صمتها لم يدم طويلًا. ففي إحدى لحظات التوتر السياسي، عندما اعتدت السلطات على استقلال الجامعة، خرجت نعيمة عن هدوئها، وصعدت إلى منصة الخطابة أمام نحو 1800 طالب. حدثت المفاجأة حين سمع الطلاب صوتها لأول مرة، فهتفوا ساخرين: “نطق أبو الهول!” لكنها — للمفارقة — قادت الطلاب في احتجاجهم، ثم قادتهم لاحقًا للعودة إلى المحاضرات بعد انتهاء الأزمة، بناءً على طلب من عميد الكلية. كانت تلك اللحظة نقطة تحوّل، أثبتت أن الفتاة الكردية الهادئة تحمل روحًا ثائرة وقوة حضور لا تقل عن أي قائد طلابي في ذلك الزمن.
مي زيادة تكتب عنها
ساعدها الدكتور طه حسين كثيرًا، وكتبت عنها مي زيادة في كتابها ” كتابات منسية”، وكتبت عنها أيضا رباب كمال في كتابها “نساء في عرين الأصولية الإسلامية”، وتحدثت عنها هدي شعراوي في مذكراتها.
وبسبب الضجة الكبيرة التي أحدثتها، ذكرها عبد المنعم شميس في كتابه “شخصيات مصرية”، وكتب عنها الكاتب الصحفي عبد الله نوفل مقالًا نُشر بجريدة الجمهورية.
وترافعت في قضيتين كانتا السبب في شهرتها وتمكنت من كسبهما، واعتزلت المحاماة بعد زواجها وتفرغت للخدمة الاجتماعية.
رأي صحفي
وفى راي للكاتبة الصحفية زينب الباز تقول بأنها تستحق بجدارة لقب مناصرة المرأة فهي خاضت معارك ومشوارها كان صعبا ففى يونيو 1933، ومع أنها كانت مريضة بشدة قبيل الامتحانات، حصلت نعيمة على الليسانس من كلية الحقوق بتفوّق، وتصدر ترتيبها المركز الثالث عشر على الدفعة. وفي اليوم ذاته، تصدّرت صورتها الصفحات الأولى لجريدة "الأهرام" و"العروسة"، تحت عناوين أبرزها: “الآنسة نعيمة الأيوبي… أول مصرية تنجح في امتحان ليسانس الحقوق.” ومنذ اللحظة الأولى، أعلنت للجميع: “لن أقبل المرافعة إلا عن المظلومين.”
المعركة من أجل دخول نقابة المحامين
لم يكن الحصول على الشهادة نهاية الطريق، بل بدايته. قدّمت نعيمة طلبًا لقيد اسمها في جدول عموم المحامين بمحكمة الاستئناف، وكانت تلك الخطوة بحد ذاتها صادمة للمجتمع القانوني. ومع ذلك، نجحت، لتصبح: أول امرأة تُسجَّل رسميًا في نقابة المحامين المصرية، وأول امرأة ترتدي روب المحاماة الأسود في تاريخ مصر. عملت بعد ذلك في مكتب محمد علي علوبة باشا، أحد أبرز المحامين في العالم العربي حينها. وتعرضت لحملة انتقادات شرسة من أنصار التقليدية، وصلت حدّ اتهامها بتجاوز “الآداب والفضيلة” لمجرد دخولها ساحات المحاكم. لكنّ زملاءها المنصفين وقفوا معها. كتب المحامي عبد الله حسين في الأهرام عام 1933: “عمل نعيمة الأيوبي في المحاماة ليس منافسة للرجال، بل هو إكليل في تاج المهنة، ودرة في تاج المرأة المصرية.”
الجلسة الأولى… مشهد لا يُنسى
عام 1934، دخلت نعيمة أول جلسة مرافعة لها، وكانت قضية وطنية ضد الاحتلال البريطاني، تدافع فيها عن رموز بارزين مثل: فتحي رضوان، أحمد حسين، حافظ محمود. دخلت القاعة وسط رجال فقط، يمتلئ بعضهم بالدهشة وبعضهم بالرفض. وعندما تقدمت لطلب قضيتها، خاطبها القاضي بخشونة، ظنًّا منه أنها “سيدة من الجمهور”. لكنها أجابته بثبات: “أنا محامية.” ساد الصمت، وارتفعت الأعناق لترى المشهد غير المسبوق: امرأة تترافع لأول مرة في تاريخ القضاء المصري. قدمت مرافعة قوية، وعندما خرجت من القاعة تابعتها نظرات الحاضرين — مزيج من الدهشة والإعجاب — بينما بقيت علامات التعجب على وجه القاضي الذي لم ينسَ ذلك اليوم طوال حياته.
قانوني يجيب عن سؤال الغياب
لماذا غابت نعيمة عن الضوء؟
رغم أن الوثائق أثبتت ريادتها، فإن شهرتها لم تحظَ بالزخم الذي حصلت عليه مفيدة عبد الرحمن لاحقًا.إذ يرى المستشار القانوني الكبير خالد فؤاد، أن نعيمة كانت بعيدة عن الإعلام والسياسة، على عكس زميلتها مفيدة، التي امتلكت شبكة علاقات جعلت اسمها أكثر حضورًا في الصحافة والحياة العامة. لكن الحقائق التاريخية، والجداول القديمة للمحاكم المختلطة، وسجلات النقابة، كلها تؤكّد: نعيمة الأيوبي هي أول محامية مصرية، وأول امرأة ترتدي روب المحاماة في مصر والعالم العربي، وابنة عائلة كردية عريقة لها جذور ممتدة إلى صلاح الدين الأيوبي.
إرث لا يُمحى
بفضل شجاعة نعيمة الأيوبي، تغيّر وجه مهنة المحاماة في مصر. فمن بعدها جاءت أسماء بارزة مثل: مفيدة عبد الرحمن، عطيات الخربوطلي، عطيات الشافعي، وديدة عزب، وغيرهن. لكنّ الخطوة الأولى — الأصعب والأكثر جرأة — كانت لها وحدها. لقد فتحت أبوابًا كانت موصدة، وكسرت قيودًا اجتماعية حديدية، أثبتت أن المرأة لا تقل عقلًا ولا جرأة ولا مهنية عن الرجل، وأن المهنة التي كانت “رجالية” أصبحت — بفضلها — متاحة للجميع. كانت نعيمة تقول دائمًا: “الحَجْر لا يحمي الفتاة ولا يصونها. يجب أن تشعر أنها مسؤولة عن نفسها.” واليوم، بعد مرور ما يقرب من قرن على إنجازها، يمكن القول بثقة: إن التاريخ قد ظلم نعيمة الأيوبي طويلًا، لكنه لا يستطيع تجاهلها إلى الأبد.