رجل الدولة… وموظف الدولة بين الحرف والروح

رجل الدولة… وموظف الدولة بين الحرف والروح
رجل الدولة… وموظف الدولة بين الحرف والروح

ليس كل من جلس على كرسي المسؤولية يُعد رجل دولة، فهناك فرق جوهري بين من يكتفي بأداء الواجب الوظيفي حرفياً، وبين من يُحسّ بواجب الوطن في عمق ضميره. الموظف ينفّذ ما كُتب أمامه بلا زيادة أو نقصان، أما رجل الدولة، فيقرأ النص بعينٍ تُبصر مصلحة الناس قبل الحبر والورق. إنه يدرك أن القوانين وُجدت لتنظيم حياة المواطنين لا لتعطيلها، وأن الغاية الأسمى من السلطة هي خدمة الإنسان لا إخضاعه لبيروقراطية متخشّبة.

رجل الدولة لا يتجاوز القانون، لكنه يتجاوزه بمعناه الضيق إلى مقاصده الكبرى. حين يواجه موقفاً إنسانياً يتطلب قراراً عاجلاً، لا ينتظر توقيع المراجع أو ضوءاً أخضر من أحد، بل يتخذ قراره بشجاعة الضمير، مدركاً أن مسؤولية الإنسان في موقعه لا تقل قداسة عن نص التعليمات. فهو يعرف متى يكون الالتزام الحرفي نوعاً من التخاذل، ومتى يكون الاجتهاد نوعاً من البطولة.

أتذكر حادثة في أحد البلدان الشقيقة، جاءت فيها زوجة شهيد قضى حياته دفاعاً عن أرضه، تطلب أوراقاً رسمية لتثبيت حق زوجها، فقوبلت ببيروقراطية باردة لا تعرف الرحمة. قال لها الموظف إنه لا يستطيع المساعدة؛ لأن أوراق الشهيد لم تستوفِ الشروط، مع أن الجميع يعرف من هو الشهيد، ومن أي أرض جاء، ومن أي جذور خرج، وكيف ضحّى بحياته من أجل وطنه. ربما رأى البعض في موقف الموظف تطبيقاً للقانون، لكن أصحاب البصيرة رأوا فيه ظلماً للعدالة. فالعدالة ليست نصاً يُتلى، بل روحاً تُنصف.

وفي تجارب دول أخرى، كثيراً ما كان رجل الدولة هو من حمى الناس من جمود البيروقراطية. ففي اليابان مثلاً، حين ضرب الزلزال الكبير، لم ينتظر بعض القادة التعليمات الرسمية، بل فتحوا المدارس والمراكز العامة للنازحين فوراً، لأنهم أدركوا أن القانون وُجد لخدمة الإنسان لا لتعطيله.

ما قصدته هنا ليس الدعوة إلى التمرد على القوانين، بل الدعوة إلى الفهم الإنساني والعقلاني للقانون. فهناك فرق بين من يتعامل مع الورق كغاية، ومن يتعامل معه كوسيلة لخدمة الناس. رجل الدولة لا يخاف من اتخاذ القرار، لأنه يستند إلى وعي ومعرفة وميزانٍ دقيق يفرّق به بين من يستحق ومن لا يستحق، بين من يخدم الوطن ومن يستهلكه. هو لا يُسقط القانون، بل يُفعّله بروح العدالة والرحمة والمسؤولية.

ورجل الدولة لا يعمل منفرداً، بل يبني مؤسسات قادرة على ترجمة رؤيته إلى سياسات عادلة. فالقائد الحقيقي لا يكتفي بقرار لحظة، بل يضع نظاماً يضمن أن العدالة تُمارس حتى في غيابه.

ومهام رجل الدولة لا تقف عند حدود حلّ معاملة أو تجاوز تعقيدٍ إداري، بل تمتد لتشمل رؤية بعيدة المدى وقدرة على قراءة المشهد الوطني بتفاصيله الدقيقة. فهو لا يتعامل مع المشكلة كحادثة منفصلة، بل كعرضٍ لخللٍ يجب إصلاحه. ينظر إلى القوانين كأدوات لبناء دولة عادلة، ويعيد ترتيب الأولويات بما يخدم الاستقرار والتنمية، ويستشرف المخاطر قبل وقوعها، ويستوعب التحولات الاجتماعية والسياسية، ويمتلك القدرة على إدارة الأزمات واتخاذ القرارات الصعبة بجرأة محسوبة. وهو صوت التوازن حين ترتفع الأصوات، وصوت العقل حين تتشابك المصالح، وحلقة الوصل بين المواطن ومؤسسات الحكم. إن دوره ليس إدارياً فحسب، بل فكري وأخلاقي وسياسي وإنساني في آن واحد، لأنه يمثّل البنية التي تُبنى عليها هيبة الدولة وقيمها وهويتها الوطنية.

وليس كل موظف جامداً، وليس كل مسؤول قائداً. هناك موظفون يملكون بذور رجل الدولة، لكنهم يحتاجون إلى تدريب وثقافة سياسية تُشجعهم على المبادرة بدل الخوف.

وفي قلب شخصية رجل الدولة تقف القيادة الحقيقية، القيادة التي لا تُمارس بالشعارات بل بالفعل، والتي لا تستند إلى المنصب، بل إلى القيمة. رجل الدولة قائدٌ يُصلح قبل أن يحكم، ويُعالج جذور الخلل قبل أن يحمل سطح المشكلة. الإصلاح لديه ليس إجراءً مؤقتاً، بل رؤية مستمرة، والنزاهة ليست فضيلة إضافية، بل الأساس الذي تقوم عليه كل خطوة. وهو يعرف مجتمعه معرفة عميقة؛ يعرف العائلات والعشائر وتاريخ المناطق وأوضاع الناس، ويقرأ شخصياتهم وطباعهم، ويميّز بين صاحب الحق وصاحب الادعاء، وبين من يحمل الوطن في قلبه، ومن يحمل المصلحة في جيبه. قدرته على تقييم الناس ليست ترفاً بل ضرورة، لأنها تمنحه القدرة على اتخاذ القرارات المناسبة، واختيار الأشخاص المناسبين، ووضع كل مسؤول في موقعه الصحيح.

هذا الفهم يلتقي مع ما يُعرف اليوم بـالحوكمة الرشيدة، حيث يُقاس نجاح الدولة بقدرتها على تحقيق العدالة والشفافية وخدمة المواطن، لا بمجرد الالتزام بالنصوص.

رجل الدولة الحقيقي يملك بوصلة أخلاقية تعرف الاتجاه حتى في غياب الخارطة، ويملك الجرأة التي تجعل القرار مسؤولية وليست مغامرة. أما الموظف فهو غالباً أسير الخوف، يخشى أن يخطئ فيتجمّد مكانه، ويختار الانتظار على المبادرة، فتغدو القوانين في يده قيداً على الناس بدلاً من أن تكون حماية لهم. الأول يُعيد الحياة للنظام، والثاني يُميت النظام بالحرف. الأول يترك أثراً، والثاني يترك توقيعاً.

مسؤوليتنا جميعاً أن نطالب برجال دولة لا بموظفي دولة، وأن نُنشئ ثقافة سياسية تُخرّج قادة يعرفون أن القانون وسيلة للعدل، وأن السلطة أمانة لا امتياز.