د. سامان سوراني
أكاديمي كوردي
عراق ما بعد الانتخابات البرلمانیة: هل تغيّر واشنطن قواعد اللعبة؟
بعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وجد العراق نفسه مرة أخرى في قلب لحظة سياسية معقدة تجمع بين تناقضات الداخل وتنافس الإقليم، فيما تتحرك الولايات المتحدة بزعامة الرئیس دونالد ترامب بخطوات تبدو أكثر حزماً لتعديل قواعد اللعبة داخل بغداد.
فواشنطن باتت ترى أن الحد من النفوذ الإيراني ضرورة استراتيجية، لكنها لا تسعى في المقابل إلى صناعة توازن طائفي جديد، بل تفضّل أن تمر جميع عمليات إعادة الضبط عبر المؤسسات الرسمية للدولة، وأن يكون الاستقرار ثمرة قرار حكومي موحّد لا ساحة مفتوحة للفصائل والسلاح الموازي.
هذا النهج القائم على ما يشبه “المضاد الحيوي السياسي” يهدف إلى منع أي قوة داخلية من الانفراد بالمشهد، مع الاستمرار في إرسال رسائل واضحة للحكومة، بأن الدعم الأميركي يرتبط بقدرة بغداد على احتكار السلاح وحصره بيد الدولة.
وفي ظل هذا التوجه، تحركت واشنطن بأدواتها الأمنية والاستخبارية عند الضرورة، سواء عبر التضييق القانوني على القيادات الولائية أو الضغط السياسي المباشر، إدراكاً منها أن المواجهات بين الفصائل مسألة وقت، وأن التحكم بإيقاعها يمنحها القدرة على إدارة المشهد دون الانزلاق إلى صدام شامل أو حرب مفتوحة لا ترغب فيها.
تتزامن هذه الضغوط الأميركية مع إدراك متزايد لأهمية العراق الجيوسياسية. فالموقع الجغرافي للعراق، واحتياطاته النفطية، وتحوّله إلى نقطة تماس بين النفوذ الإيراني والتنافس الروسي–الصيني، كلها عوامل جعلته محوراً رئيسياً في استراتيجية واشنطن الجديدة، التي تقوم على حماية الدولار والطاقة ومنع أي قوة معادية من السيطرة على الشرق الأوسط.
لقد أصبح التعامل مع العراق في هذه الإدارة الأمریکیة برئاسة ترامب جزءاً من مشروع أوسع يهدف إلى كبح تمدد الصين وروسيا وإعادة ربط بغداد بالفضاء الغربي، عبر تشديد الضغوط الاقتصادية وإعادة فرض العقوبات على طهران وإلغاء الإعفاءات، التي تسمح للعراق بالاستفادة من الطاقة الإيرانية.
غير أن هذا النهج اصطدم برفض صريح من الفصائل المسلحة، خصوصاً حزب الله العراقي، الذي أعلن تمسكه بسلاحه ورفضه لأي إملاءات خارجية. وفي المقابل، تحاول إيران إدارة هذا التصعيد بحذر، فهي تدرك أن خسارة أذرعها في العراق تعني تراجعاً كبيراً في ميزان قوتها، لكنها تخشى أيضاً من انفجار مواجهة واسعة تستنزفها، لذا عملت في الفترة الأخيرة على ضبط بعض الفصائل، ومنع الهجمات على المصالح الأميركية، بل وهددت بملاحقة من يخرق هذا التوجه قانونياً، في محاولة للحفاظ على نفوذ مستقر دون تعريض علاقتها ببغداد لاهتزازات خطيرة.
ومع تعاظم هذا التجاذب بين واشنطن وطهران، يبرز دور إقليم كوردستان بوصفه أحد أهم مصادر التوازن داخل العراق. فقد أثبت الإقليم خلال السنوات الماضية أنه منطقة استقرار سياسي وأمني قادرة على تقليل حدة التوتر وتوفير مساحة للحوار بين الأطراف المتصارعة. وتلعب رؤية الرئيس مسعود بارزاني کمرجع سیاسي دوراً محورياً في ذلك، إذ يستند نهجه إلى مبدأ التوازن بين الولايات المتحدة وإيران دون الانجرار إلى تبعية لأي محور، مع التركيز على أن استقرار العراق قائم أولاً على بناء دولة حقيقية تحتكم إلى الدستور والمؤسسات لا إلى السلاح الموازي. ويرى الرئیس بارزاني أن تعزيز الشراكات الدولية، وخاصة مع الولايات المتحدة، يسهم في حماية العراق من الانزلاق نحو عزلة دولية أو ارتهان اقتصادي وسياسي، كما أن تشجيعه المستمر للحوار بين بغداد وواشنطن خفف كثيراً من حدة التوتر، ووفّر مساحة للحكومة العراقية للتحرك دون الاصطدام المباشر بأي من القوتين.
في المقابل، تبدو بغداد وكأنها في قلب العاصفة، مطالبة بإرضاء واشنطن من جهة ومنع الفصائل الولائية من الانفلات من جهة أخرى، مع الحفاظ على توازنها الدقيق في علاقتها مع إيران.
أي إخفاق في إدارة هذا الملف سيعرض العراق إلى اهتزاز اقتصادي وسياسي، وقد يهدد علاقاته الدولية ويعيده إلى مرحلة شديدة الاضطراب. فالمشهد ما بعد الانتخابات مفتوح على احتمالات متعددة، تبدأ بتسوية داخلية شاملة تُعيد للدولة مكانتها، ولا تنتهي بتصعيد أميركي اقتصادي وأمني قد يُربك النظام السياسي برمته.
اليوم يبدو العراق أمام لحظة فاصلة: فإما أن يمضي نحو بناء دولة مؤسسات قادرة على احتكار السلاح واتخاذ القرار السياسي بعيداً عن تأثير المحاور، أو أن يظل ساحة مفتوحة للتجاذبات، تتقاذفه القوى الإقليمية والدولية دون أن يمتلك القدرة على تقرير مصيره.
وبين هذا وذاك، يبقى دور إقليم كوردستان ورؤية الرئیس مسعود بارزاني أحد أهم الفرص المتاحة لإعادة الاستقرار والتوازن إلى بلد أنهكته الأزمات.