مظفر مزوري
صحفي في مؤسسة كوردستان24
حكومة مسرور بارزاني.. عقيدة "الجراحة العميقة" في مواجهة تسونامي الأزمات
عندما أدى مسرور بارزاني اليمين الدستورية رئيساً للحكومة التاسعة لإقليم كوردستان في صيف 2019، لم يكن يواجه مجرد تحديات روتينية، بل كان يقف أمام "تسونامي" من الأزمات المتراكمة والمركبة. مثل جائحة كورونا التي شلت الاقتصاد العالمي، ثم انهيار أسعار النفط، تلاه حصار مالي وقانوني غير مسبوق من قبل المحكمة الاتحادية في بغداد.
إلا أن القراءة الموضوعية لمسار السنوات الماضية تكشف أن التشكيلة الحكومية التاسعة برئاسة مسرور بارزاني لم تكتفِ بدور "رجل الإطفاء" لإخماد الحرائق، بل تبنت عقيدة سياسية جديدة قوامها "الجراحة العميقة" بدلاً من المسكنات. وفيما يلي تحليل تفصيلي لأركان هذه الحقبة:
المحور الأول: الثورة المالية والمصرفية "الانتقال من الفوضى إلى النظام"
أدركت التشكيلة الحكومية التاسعة في كوردستان، أن "الفساد ليس أشخاصاً فقط، بل منظومة وبيئة". لذا، ركزت الإصلاحات على تجفيف منابع الفساد عبر التكنولوجيا:
مشروع حسابي "هەژماری من": تعد هذه المبادرة ثورة مصرفية تهدف لدمج أكثر من مليون موظف حكومي في النظام المصرفي الحديث، مما ينهي عصر توزيع الرواتب نقداً ويقلل من مخاطر السرقة والفساد، ويؤسس لاقتصاد غير نقدي يعزز السيولة في البنوك.
النتائج: ربط أكثر من نصف مليون موظف "والعدد يتصاعد ليتجاوز المليون" بشبكة مصارف خاصة معتمدة من البنك المركزي العراقي، مما يتيح للموظف الكوردي لأول مرة الوصول للقروض السكنية والاستهلاكية، ويعيد الثقة للقطاع المصرفي.
تنظيم الإيرادات المحلية: لأول مرة، تم توحيد الإجراءات الجمركية والضريبية. الحكومة لم ترفع الضرائب على الكادحين، بل لاحقت الشركات الكبرى والمتهربين ضريبياً، مما أدى لزيادة الإيرادات غير النفطية بنسب تجاوزت 100% في بعض القطاعات، لتعود هذه الأموال إلى خزينة الدولة لتمويل الرواتب والمشاريع عند تأخر دفعات بغداد.
ترشيد الإنفاق الحكومي: تم خفض النفقات التشغيلية للوزارات والمؤسسات الحكومية غير الضرورية بشكل حاد، وتوجيه الأموال نحو المشاريع الخدمية.
المحور الثاني: تنويع الاقتصاد.. كسر "لعنة النفط"
لطالما كان الاقتصاد الكوردستاني رهينة لبرميل النفط. لتأتي التشكيلة الحكومية التاسعة وتنفذ أخطر عملية تحول اقتصادي عبر مسارين:
المسار الاول: الزراعة كأمن قومي وتجارة
رفعت الحكومة شعار "سلة غذاء المنطقة". ولأول مرة، نرى الرمان، البطاطا، العسل، والتفاح الكوردستاني في أسواق الإمارات والسعودية وأوروبا.
تم الاتفاق مع شركات عالمية (مثل سلاسل مطاعم وجبات سريعة عالمية في الخليج) لاعتماد البطاطا الكوردستانية نظراً لجودتها.
بناء عشرات السايلوهات (الصوامع) الحديثة في مختلف المحافظات لاستيعاب قمح الفلاحين، مما أنهى عقوداً من تلف المحاصيل أو بيعها بخسارة.
المسار الثاني: الصناعة والمدن الصناعية
تفعيل المدن الصناعية وتسهيل رخص الاستثمار للمصانع المحلية (الألبان، مواد البناء، الكابلات)، بهدف تقليل الاعتماد على الاستيراد من دول الجوار والحفاظ على العملة الصعبة داخل إقليم كوردستان.
المحور الثالث: ثورة البنية التحتية والمياه "العمل بصمت"
رغم الأزمة المالية، تحول إقليم كوردستان إلى ورشة عمل كبرى، مع التركيز على الجودة والاستدامة، وكما يلي:
الطرق الاستراتيجية: التركيز لم يكن على تعبيد الشوارع الداخلية فقط، بل على الطرق الدولية والرابطة بين المدن لتعزيز التجارة:
طريق "100 متر" في السليمانية: الحلم الذي تأخر لسنوات طويلة، حولته الحكومة التاسعة إلى واقع يجري العمل فيه بوتيرة متسارعة.
طريق "150 متر" السريع في أربيل.
طرق حديثة تربط كلار - السليمانية ودهوك – زاخو، وطرق أخرى في رابرين وسوران، وأنفاق جبلية اختصرت ساعات من السفر والمخاطر.
الأمن المائي "حرب المستقبل": استشرفت حكومة مسرور بارزاني خطر التغير المناخي مبكراً:
بناء وإنجاز سدود استراتيجية مثل سد "كومة سبان" الذي يعد ثالث أكبر سد في الإقليم، وسد بستورة.
إنشاء عشرات البرك المائية لحجز مياه الأمطار وتغذية المياه الجوفية، مما أنقذ مواسم زراعية كاملة في سنوات الجفاف.
المحور الرابع: الإدارة والحوكمة "تقريب الحكومة من المواطن"
أحدثت التشكيلة الحكومية التاسعة تغييراً جوهرياً في الهيكل الإداري:
اللامركزية الإدارية: تحويل أقضية (زاخو وسوران ورابرين) إلى إدارات مستقلة بصلاحيات واسعة. هذا القرار خفف العبء عن مراكز المحافظات، ومنح السكان المحليين قدرة على إنجاز معاملاتهم ومشاريعهم دون الرجوع للمحافظات في كل صغيرة وكبيرة.
التحول الرقمي (Digital Kurdistan): إطلاق بوابة الخدمات الرقمية التي تتيح للمواطنين إنجاز المعاملات، مثل تجديد رخص القيادة، تسجيل الشركات عبر الإنترنت، مما يقلص الاحتكاك بالموظفين ويغلق باب الرشوة والمحسوبية.
المحور الخامس: السياسة الخارجية والعلاقة مع بغداد
اتسمت سياسة مسرور بارزاني بـ "الواقعية الصلبة":
مع بغداد: رغم القرارات القاسية من المحكمة الاتحادية في بغداد وضغطت عليه مالياً، انتهج مسرور بارزاني "الصبر الاستراتيجي". النتيجة كانت تثبيت حصة الإقليم في الموازنة الثلاثية، والوصول لتفاهمات حول الرواتب، مع التمسك بالكيان الدستوري لاقليم كوردستان وعدم التنازل عن الحقوق الدستورية.
دولياً: عززت حكومة كوردستان برئاسة مسرور بارزاني علاقاتها مع الولايات المتحدة وأوروبا والخليج. زيارات رئيس الحكومة للمنتديات العالمية "دافوس، القمة العالمية للحكومات في دبي" وزياراته لواشنطن ولندن وبرلين، رسخت صورة إقليم كوردستان كـ "عامل استقرار" وشريك أمني واقتصادي موثوق، مما وفر غطاءً سياسياً لاقليم كوردستان في أحلك الظروف الأمنية.
خلاصة تحليلية: التأسيس للمستقبل
ما يميز التشكيلة الحكومية التاسعة ليس فقط "ما أنجزته" من مشاريع ملموسة، بل "ما أسسته" من أنظمة. لقد نقل مسرور بارزاني إقليم كوردستان من مرحلة "إدارة السلطة" إلى مرحلة "بناء الدولة".
النظام المصرفي هو أساس أي دولة حديثة.
البنية التحتية للطرق والمياه هي شريان الحياة.
تنويع الاقتصاد هو بوليصة التأمين ضد تقلبات المستقبل.
إن تقييم التشكيلة التاسعة لا يجب أن يتم بمعزل عن الظروف القاسية التي رافقت عملها. الإنجاز الحقيقي لحكومة مسرور بارزاني لا يكمن فقط في المشاريع المنجزة، بل في "تغيير العقلية الإدارية". الانتقال من إدارة الثروة النفطية فقط إلى إدارة الموارد المتنوعة، ومن الفوضى الإدارية إلى النظام الرقمي، ومن الحلول المؤقتة إلى البنية التحتية المستدامة.
قد لا يلمس المواطن أثر بعض هذه الإصلاحات الهيكلية مثل النظام الضريبي أو المصرفي بشكل فوري كما يلمس تعبيد شارع، لكن هذه الإصلاحات هي التي تضمن بقاء إقليم كوردستان قوياً، قادراً على دفع الرواتب مستقبلاً دون رحمة أسعار النفط، وقادراً على الوقوف نداً سياسياً بفضل استقلاله الاقتصادي. إنها حكومة اختارت "الطريق الصعب" للإصلاح الجذري بدلاً من "الطريق السهل" للحلول الترقيعية.
لقد أثبتت هذه الحكومة قدرتها على "الصمود والتطور" في آن واحد، واضعةً أسساً متينة لأي حكومة قادمة، لتكون كوردستان بالفعل أقوى مما كانت عليه، بفضل رؤية سياسية فضلت مصلحة الأجيال القادمة على المكاسب الشعبوية الآنية.