مظفر مزوري
صحفي في مؤسسة كوردستان24
كورمور: حين تُكتَبُ السياسة بالصواريخ ويدفع الاقتصاد الثمن
حقل كورمور الغازي لم يعد منشأة حيوية لانتاج الطاقة، بل تحول خلال العامين المنصرمين الى بؤرة ملتهبة تختزل تعقيدات المشهد العراقي والصراعات الاقليمية في النفوذ والسيطرة، انتقل هذا الملف من كونه مشروعاً اقتصاديا استثمارياً واعداً، من أجل تأمين احتياجات الطاقة المحلية للعراق، الى ساحة فعلية لتبادل الرسائل التي تكتب بالصواريخ والمسيرات الارهابية.
القصف الاخير لحقل كورمور يشكل منعطفاً حاداً، نقل الهجمات من خانة المناوشات الامنية والضغوط السياسية الى مستوى الاستنزاف الاقتصادي المباشر وتهديد حياة المدنيين، الامر الذي كشف عن استراتيجية ممنهجة لخنق طموحات كوردستان في التحول الى مركز إقليمي للطاقة، وعرقلة مساعي ربط غاز كوردستان بالاسواق العالمية، او استخدامه لتقليل اعتماد العراق على الغاز الايراني.
الهدف المباشر من هذا القصف هو ضرب البنية التحتية الاقتصادية لكوردستان وشل قدرتها على انتاج الكهرباء، حيث يؤدي توقف الحقل عن العمل ولو لساعات الى انخفاض حاد في انتاج الكهرباء بمقدار الاف الميغاوات.
ردود الافعال الدولية حول قصف كورمور توالت، منددة بالهجوم الارهابي الذي رأته تلك الدول بأنه تهديد لاستقرار المنطقة ككل، حيث توعد مارك سافايا، مبعوث الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى العراق، الجماعات المسلحة التي استهدفت حقل غاز "كورمور" بالملاحقة والحساب، واصفاً إياها بأنها أدوات لـ"أجندات خارجية معادية"، وذلك في أول رد فعل حازم من إدارة ترامب على الهجوم. وشدد سافايا على الموقف الأمريكي الثابت تجاه الإقليم، مؤكداً أن "واشنطن تدعم كوردستان قوية ضمن عراق موحد ومستقر".
بعثة الاتحاد الأوروبي بدورها أدانت بشدة هذا الاعتداء الذي طال بنية تحتية للطاقة ذات طابع مدني، مشيرة إلى التأثيرات السلبية التي قد تمس المواطنين في مختلف أنحاء البلاد.
بدوره أدان السفير البريطاني لدى العراق، عرفان صديق، اليوم الخميس، الهجوم الذي استهدف حقل كور مور للغاز ليلة أمس في إقليم كوردستان، مؤكداً أن الاعتداءات على البنية التحتية الحيوية تشكل تهديداً لاستقرار العراق وسلامة شعبه.
أما على الصعيد الداخلي العراقي، قصف كورمور وضع الحكومة العراقية أمام اختبار عسير وصعب وموقف محرج، فالحكومة العراقية تحتاج الى انتاج حقل كورمور لتشغيل محطات الكهرباء في كركوك والموصل لضمان الاستقرار الخدمي، تجد نفسها مكبلة بتوازنات سياسية تمنعها من الدخول في مواجة مفتوحة وعنيفة مع الفصائل التي تتهم بتنفيذ تلك الهجمات الارهابية، والتي تنطلق غالبا من مناطق تقع ضمن حدود الحشد الشعبي في طوزخورماتو ومحيط كركوك، لتنتهي الاجراءات الحكومية بتشكيل لجان لا تسمن ولا تغن من جوع وإصدار بيانات الادانة، بدون محاسبة الجناة، وهذا ما رسم قناعة لدى المراقبين بأن أمن حقل كورمور لا يتحقق عبر اجراءات عسكرية ودفاعية جوية فحسب، وانما بتسوية سياسية شاملة بين أربيل وبغداد حول قانون النفط والغاز، وتفاهمات إقليمية أوسع تضمن تحييد قطاع الطاقة العراقي عن الصراعات الجيوسياسية.
ولمعرفة أسباب هذه الاستهدافات الارهابية لحقل كورمور، يجب فهم الجغرافيا الاقتصادية للحقل الذي تديره "دانة غاز ونفت كريسنت" وكالتالي:
أولاً: الهجمات لم تكن عشوائية أبداً، بل تزامنت مع سعي إقليم كوردستان والشركات المستثمرة لتوسيع الانتاج للوصول الى إنتاج 700 مليون قدم مكعب يومياً، وهذا التوسع يعني أمرين، الاكتفاء الذاتي لكوردستان وفاض محتمل للتصدير الى تركيا ومنها الى اوروبا.
ثانياً: مشروع توسعة حقل كورمور حصل على تمويل أمريكي بقيمة 250 مليون دولار من مؤسسة تمويل التنمية الدولية الامريكية، إذاً فالهجوم على الحقل يعد استهدافاً مباشراً للمصالح الامريكية في العراق.
ثالثاً: نجاح إقليم كوردستان في تمويل محطات كركوك والموصل بالغاز يعني تقليل اعتماد العراق على الغاز الايراني المستورد لتشغيل الكهرباء، وهو ما يضر بالمصالح الاقتصادية لطهران في العراق.
في المحصلة، يخلص التحليل الاستراتيجي لهذا الملف الشائك إلى أن حقل "كورمور" لم يعد مجرد منشأة صناعية، بل تحول إلى "بارومتر" يقيس حدة الصراع الإقليمي في العراق، وأن استمرار القصف بالمسيرات والصواريخ يرسخ حقيقة مفادها أن الحلول الأمنية والعسكرية قاصرة تماماً عن حماية "كورمور" أو غيره من المنشآت الحيوية ما لم يتم التوصل إلى تسوية سياسية شاملة، تتضمن إقرار قانون النفط والغاز الاتحادي بشكل يضمن توزيعاً عادلاً للموارد ويسحب الذريعة "الوطنية" من الفصائل، بالإضافة إلى ضرورة وجود توافق إقليمي يحيد ملف الطاقة العراقي عن صراعات النفوذ، وإلا فإن سيناريو توقف الحقل بشكل كامل وانسحاب الشركات الأجنبية يبقى هو الأرجح، مما سيدخل العراق وإقليم كوردستان في نفق مظلم من الأزمات الاقتصادية والخدمية التي يدفع ثمنها المواطن العراقي وحده، بينما تستمر الأطراف الخارجية في تبادل الرسائل النارية فوق رأسه.
قصف حقل "كورمور" ليس حدثاً عابراً، بل هو مؤشر حراري يقيس حدة الصراع الإقليمي في العراق. إنه المكان الذي تصطدم فيه الطائرات المسيرة (المحسوبة على المحور الشرقي) برأس المال والاستثمارات (المحسوبة على المحور الغربي والخليجي). وطالما بقي العراق ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية، ستبقى شعلة "كورمور" مهددة بالانطفاء، وسيبقى أمن الطاقة العراقي رهين معادلات سياسية تتجاوز حدود جمجمال.