مظفر مزوري
صحفي في مؤسسة كوردستان24
حصن أربيل الدبلوماسي.. استراتيجية الحضور الذكي ورسائل البقاء الأمريكي في المنطقة
لم يكن مشروع بناء القنصلية الأمريكية الجديدة في أربيل، عاصمة إقليم كوردستان، مجرد إجراء بروتوكولي لتوسيع مكاتب دبلوماسية؛ بل هو حدث يحمل في طياته رسائل جيوسياسية وأمنية عميقة تتجاوز حدود كوردستان لتصل إلى طهران وأنقرة وبغداد، وحتى واشنطن نفسها.
تمثل القنصلية "بوليصة تأمين" معنوية وسياسية لإقليم كوردستان. الرسالة واضحة: واشنطن لا تنوي التخلي عن الكورد. إن استثماراً بهذا الحجم يعني تخطيطاً للبقاء لعقود طويلة، مما يعزز موقف حكومة كوردستان داخليا وإقليميا ودولياً.
في قلب الشرق الأوسط المتغير، وحيث يُعاد رسم خرائط النفوذ بالدم والتسويات، يبرز افتتاح القنصلية الأمريكية الجديدة في أربيل كحدث يتجاوز في دلالاته بروتوكولات العمل الدبلوماسي التقليدي، ليلامس جوهر العقيدة الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في المنطقة؛ فأن تُشيد واشنطن أكبر مجمع قنصلي لها على مستوى العالم بتكلفة ناهزت الثمانمائة مليون دولار على مساحة شاسعة في إقليم كوردستان، هو إعلان صريح وملموس بأن الولايات المتحدة، وإن كانت قد طوت صفحة الحروب المفتوحة ونشر الجيوش الجرارة، فإنها تستبدل ذلك بنمط جديد من "الحضور الذكي" المتمثل في قلاع دبلوماسية محصنة تمتلك قدرات إدارة الأزمات عن كثب.
من الناحية الأمنية، يمثل هذا الصرح تحولاً في جغرافية الأمن القومي الأمريكي؛ فالموقع الجغرافي لأربيل يمنح هذه القنصلية ميزة "برج المراقبة" الذي يطل على أخطر مثلث جيوسياسي في المنطقة، حيث تتيح التقنيات المتطورة والتحصينات العالية لهذا المجمع أن يتحول إلى منصة متقدمة للرصد الاستخباري والتحليل المعلوماتي، كاشفاً التحركات عبر الحدود الإيرانية من جهة، ومراقباً لنشاط المجموعات المسلحة في المناطق المتنازع عليها، فضلاً عن كونه مركز القيادة الخلفي لإدارة العمليات الأمريكية في سوريا، إذ تعتبر أربيل الشريان اللوجستي والسياسي الوحيد الذي يضمن استدامة الشراكة مع "قوات سوريا الديمقراطية" ويؤمن خطوط الإمداد عبر الحدود، وهو ما يعني أن خيوط اللعبة في شرق الفرات باتت تُدار بدقة أكبر من قلب كوردستان العراق. هذا التمركز الجديد يوفر لواشنطن مرونة عملياتية عالية، ففي حال تعرضت المصالح الأمريكية في بغداد لأي تهديد وجودي أو إغلاق قسري، فإن قنصلية أربيل جاهزة للعمل فوراً كـ "سفارة ظل" أو مركز بديل لإدارة الملف العراقي والسوري دون انقطاع، مستفيدة من البيئة الحاضنة في الإقليم التي تختلف جذرياً عن العدائية الكامنة في بعض مناطق الوسط والجنوب العراقي.
من الناحية السياسية، يحمل هذا التثبيت "الاسمنتي" للوجود الأمريكي رسائل متعددة الاتجاهات، أعنفها موجه نحو طهران، مفادها أن استراتيجية الضغط لإخراج القوات الأمريكية قد اصطدمت بجدار من الالتزام طويل الأمد، وأن واشنطن بترسيخ أقدامها في كوردستان تخلق توازناً للردع يمنع إيران من الاستفراد بالقرار العراقي أو تحويل البلاد إلى ممر آمن ومفتوح بالكامل نحو سوريا ولبنان. وبالتوازي، تمثل القنصلية الامريكية الجديدة "بوليصة تأمين" سياسية لإقليم كوردستان، مانحاً إياه ثقلاً دولياً يعزز موقفه التفاوضي مع بغداد حول ملفات الطاقة والموازنة، إذ يُقرأ الدعم الأمريكي هنا كاعتراف بخصوصية كوردستان كشريك موثوق، ولا سيما في قطاع الطاقة والغاز الذي تعول عليه واشنطن لتقليل اعتماد المنطقة على الغاز الإيراني مستقبلاً.
من الناحية الدبلوماسية، يمثل افتتاح القنصلية الأمريكية الجديدة في أربيل تحولاً نوعياً في العقيدة الدبلوماسية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، متجاوزاً المفهوم التقليدي للبعثات القنصلية التي تقتصر مهامها عادةً على رعاية شؤون الرعايا وتسهيل الخدمات الإدارية، ليرتقي إلى مستوى "السفارة الرديفة" أو مركز الثقل الدبلوماسي الموازي؛ فبناء أكبر منشأة قنصلية في العالم على أراضي إقليم كوردستان يحمل دلالة دبلوماسية عميقة مفادها أن واشنطن باتت تعتمد "لامركزية دبلوماسية" في إدارة ملفاتها المعقدة في العراق، معترفةً بمكانة أربيل ككيان سياسي وشريك استراتيجي يتمتع بخصوصية تتطلب تمثيلاً يرقى إلى مستوى العلاقات بين الدول، وهو ما يمنح حكومة الإقليم "شرعية دولية" صلبة في المحافل الدبلوماسية، ويعزز من مفهوم "الدبلوماسية الموازية" التي يمارسها الكورد بمعزل نسبي عن بغداد.
ختاماً، يمكن القول إن الأهمية الدبلوماسية لهذا الصرح تكمن في كونه إعلاناً بانتهاء مرحلة "الدبلوماسية المؤقتة" أو دبلوماسية الأزمات، والدخول في مرحلة "الدبلوماسية المؤسساتية الراسخة"، حيث لم تعد واشنطن تنظر إلى أربيل كمجرد محطة عبور عسكرية، بل كعاصمة دبلوماسية شريكة، ومركز انطلاق حيوي لجذب الاستثمارات العالمية، مما يفرض واقعاً جديداً يجعل من تجاوز الدور الكوردي في أي معادلة سياسية قادمة أمراً في غاية الصعوبة.