عام على "الإزاحة": عن أوهام التحرر ومأزق الدولة العميقة

عام على "الإزاحة": عن أوهام التحرر ومأزق الدولة العميقة
عام على "الإزاحة": عن أوهام التحرر ومأزق الدولة العميقة

في أدبيات التحول الديمقراطي، ثمة فرق جوهري، وكثيراً ما يتم تجاهله، بين "سقوط رأس النظام" و"سقوط النظام" ذاته. اليوم، ونحن نطوي الصفحة الأولى من روزنامة ما بعد الأسد، نجد أنفسنا أمام استحقاق أخلاقي وسياسي لا يقبل التجميل. لم يكن التحرر، في الوعي الجمعي السوري المثقل بعقود "دولة الرعب"، مجرد إزاحة فيزيائية لديكتاتور، بل كان يُفترض به أن يكون تفكيكاً لبنية الاستبداد، وتدشيناً لميثاق اجتماعي جديد.

لكن، وبالاستناد إلى المقولة السياسية الخالدة: "الحرية ليست لحظة التتويج بنهاية الصراع، بل هي بداية المسؤولية الكبرى"، يبدو أن عامنا المنصرم كان عاماً للاحتفال بالشعارات، وعاماً للفشل الذريع في تحمل تلك المسؤولية. فهل تحررنا حقاً؟ أم أننا استبدلنا السجان القديم بآخر يرتدي بدلة "إصلاحية" أنيقة، بينما يحتفظ بذات المفاتيح الصدئة؟

هندسة "الاستمرار الوظيفي" والتواطؤ الدولي

من السذاجة السياسية قراءة المشهد الحالي باعتباره قطيعة ثورية مع الماضي. إن التحليل البنيوي لبنية السلطة الحالية يكشف أنها وليدة صفقات جيوسياسية معقدة، حُيكت خيوطها في الغرف الخلفية لعواصم القرار الإقليمي، وليس في ساحات الحرية.

وفي هذا السياق، لا يمكن تبرئة المجتمع الدولي من وزر هذا المشهد المشوه. يبدو أن العواصم الفاعلة قد استبدلت ملف "التغيير الديمقراطي" بملف "الضبط الأمني". التواطؤ الدولي هنا يتجلى في البحث عن "حارس حدود" في دمشق يمنع تدفق اللاجئين ويضبط الجماعات المتطرفة، بغض النظر عن شرعيته الأخلاقية أو الدستورية. هذا "الاستقرار السلبي" الذي يموله الغرب وتوافق عليه القوى الإقليمية، هو بمثابة رخصة دولية للنظام الجديد للاستمرار في قمع طموحات السوريين، طالما أن الضجيج لا يتجاوز الحدود.

ما نعيشه اليوم هو حالة من "الاستمرار الوظيفي" (Functional Continuity) للدولة العميقة. فالأجهزة الأمنية والبيروقراطية، التي شكلت العمود الفقري لحكم البعث، لم تتفكك، بل أعادت تموضعها. الدليل الحي على ذلك لا يحتاج لمجهر؛ فما زالت "الموافقات الأمنية" تتحكم في مفاصل الحياة الاقتصادية، وما زال الضابط الذي كان يبتز المستثمرين بالأمس يجلس في ذات المكتب اليوم تحت مسمى "مستشار"، مستفيداً من شبكة العلاقات الزبائنية التي لم يمسسها أي تغيير. لقد ظننا واهمين أن السلطة الجديدة ستفكك هذه الشبكات، لكنها اكتفت بتغيير الواجهة، محولة النظام من "ديكتاتورية الفرد" إلى "أوليغارشية النخبة الجديدة".

السقوط الأخلاقي: بين هندسة الكراهية واستراتيجية الترهيب

لعل الاختبار الأقسى لأي نظام جديد هو موقفه من "التنوع المجتمعي". وهنا، تسقط السلطة الحالية بالضربة القاضية. إن ما شهدناه من انتهاكات منهجية في الساحل السوري، وما تلاها من اعتداءات موجهة ضد الحراك في السويداء، ليس مجرد "فلتان أمني" كما يروج الإعلام الرسمي، بل هو استمرار لسياسة "إدارة التوحش" القديمة.

والأخطر، هو تصاعد خطاب الشوفينية القومية ضد الكورد، والذي يُستخدم اليوم كأداة شعبوية رخيصة لتعزيز شرعية السلطة المركزية. ولإسكات أي صوت معترض على هذه الانتهاكات، تمارس السلطة الجديدة لعبة سيكولوجية خبيثة ضد المجتمع، يمكن تسميتها بـ "ابتزاز الاستقرار" أو استراتيجية "الأمن مقابل الحقوق". في كل مرة يرتفع فيها صوت يطالب بالشفافية أو التمثيل السياسي العادل، يتم ترهيب المجتمع بشبح "عودة الفوضى" أو "السيناريو الأسود". لقد نجحت النخبة الحاكمة في تحويل "الأمن" من حق طبيعي للمواطن إلى "مِنّة" تتفضل بها عليه، مشترطةً مقابل ذلك صمته عن الفساد وسوء الإدارة.

يتزامن هذا الترهيب مع إقصاء سياسي ممنهج؛ فإذا نظرنا إلى تركيبة "مجلس الشعب" الحالي أو التشكيلات الوزارية، نجدها تفتقر لأي تمثيل حقيقي لمكونات المجتمع السوري. لقد تحولت هذه المؤسسات إلى "نوادٍ مغلقة" للموالين الجدد، تماماً كما كانت في عهد الأسد، مما يفرغ مفهوم "المواطنة" من محتواه، ويجعل من الحديث عن "السلم الأهلي" مجرد ترف لفظي في ظل غياب عقد اجتماعي جامع.

"اقتصاد الظل" والنزيف البشري الصامت

على الصعيد الاقتصادي، لم تنتقل سوريا إلى اقتصاد السوق الاجتماعي الموعود، بل انزلقت نحو ما يمكن تسميته بـ "رأسمالية المحاسيب المسلحة". القرارات الاقتصادية الاستراتيجية لا تخرج من وزارة الاقتصاد، بل تُطبخ في أروقة اللجان الأمنية-الاقتصادية المشتركة.

نحن نغرق اليوم في بحر من المشاريع الوهمية؛ إعلانات عن مدن سكنية ذكية ومنتجعات سياحية، في وقت تعجز فيه الدولة عن تأمين أساسيات البنية التحتية للأرياف المدمرة. هذه المشاريع ليست سوى واجهة لغسيل أموال "اقتصاد الحرب" الذي يديره أمراء الحرب الجدد ببدلات رسمية. مثال صارخ على ذلك: إعادة تعيين شخصيات كانت أعمدة للفساد في العقد الماضي، وتسليمها ملفات "إعادة الإعمار"، في رسالة واضحة بأن الكفاءة والنزاهة لا مكان لهما في قاموس المرحلة.

ونتيجة لهذا الواقع المتردي، نواجه الكارثة الأكبر: النزيف الصامت. لعل المؤشر الأكثر رعباً على فشل المرحلة الانتقالية ليس في المؤشرات الاقتصادية الحمراء فحسب، بل في صالات المطارات وعلى المنافذ الحدودية. إن حقائب السوريين لم تُفرغ بعد؛ بل إننا نشهد موجة ثالثة من الهجرة، أخطر من سابقاتها تستهدف الكفاءات الطبية والهندسية والشباب الجامعي. في السابق، كان الناس يفرون من الموت والقصف، أما اليوم فهم يفرون من "موت الأمل". لقد حررنا الأرض ربما، لكننا نخسر الإنسان، في عملية تهجير ناعم لا تختلف نتائجها عن التهجير القسري.

وفي ذروة هذه التراجيديا، تبرز المفارقة الأكثر إيلاماً وسخرية، والتي تلخص غياب العدالة الدولية والمحلية: بينما يئن المواطن السوري تحت وطأة الفقر وتغول الميليشيات المقنعة، ينعم "بشار الأسد" - المهندس الأول لهذا الخراب - بحياة الرفاهية في منفاه الذهبي بموسكو. التقارير التي تتحدث عن ثروته المهربة ونمط حياته المترف هناك، وكأنه يتابع مأساتنا عبر شاشة "بلاي ستيشن" افتراضية، ليست مجرد تفصيل عابر، بل هي وصمة عار على جبين "العدالة الانتقالية" التي لم تبدأ بعد. إن إفلات الرأس من العقاب شجّع الأطراف الجديدة على استباحة المال العام بذات المنطق.

الخاتمة: ما وراء الإزاحة

إن حصاد هذا العام يضعنا أمام حقيقة مرة: لقد نجحنا في إسقاط الاستبداد كشخص، لكننا فشلنا في إسقاط الاستبداد كنهج. الدولة لا تُبنى بالنوايا الحسنة أو بالخطب الرنانة، بل تحتاج إلى أربعة أركان غابت تماماً عن مشهدنا الحالي:

 * عقد اجتماعي جامع: يكتبه السوريون لا القوى الخارجية.

 * عدالة انتقالية شاملة: تفتح ملفات الماضي وتمنع تدوير المجرمين.

 * مؤسسات راسخة: تكون ولائها للقانون لا للأشخاص أو الطوائف.

 * وعي وطني يقظ: يمارس الرقابة على السلطة الجديدة قبل القديمة.

السؤال اليوم لم يعد "متى يسقط النظام؟"، بل "كيف نتحرر من إرث النظام الذي يسكننا؟".

أوّاه لسوريا.. فالتحرير الحقيقي ليس حدثاً يُحتفل به لمرة واحدة، بل هو مسار شاق ومسؤولية تاريخية، يبدو أننا لم نجرؤ على حملها بعد.