رقية أبو الكرم
كاتبة صحفية
"فقراء لا يملكون سوى المال"
لعب الأدب دورًا كبيرًا في السياسة، وكانت له سلطة وسطوة على كبار القادة العرب والغربيين، فمعظم الأدباء الذين عاصروا الثورات والانقلابات العسكرية شكّلوا خطرًا تارة، وبلوروا صمام أمان تارة أخرى؛ من خلال حلقة الوصل التي تربطهم بالشباب الواعي والشارع الثائر ورموز الثورة.
ينهال الأدباء في ضخ كتاباتهم ونصوصهم الأدبية بمزيج رائع ما بين الصد والترحيب، وما بين الحب والنضال؛ فتأثير قصص الحب في الحروب والثورات، لا يقل شأنا عن تأثير البندقية في وجه العدو.
(عودة الوعي)، كتاب للكاتب المصري (توفيق الحكيم)، يحمل بين طياته مقالات سياسية لاذعة، انتقدت حقبة الحكم لـ(جمال عبد الناصر) و(حركة الضباط الأحرار) التي قادها. وقد أثار كتاب عودة الوعي ضجة كبيرة لما حمله من نقد لدكتاتورية عبد الناصر، وما تعرض له المجتمع من قمع واستبداد، برغم أن عبد الناصر كان من أشد المعجبين بتوفيق الحكيم، وكانت روايته (عودة الروح) من أشد الكتب والروايات التي تأثر بها عبد الناصر الذي كرّم توفيق الحكيم بـ(وسام الجمهورية)، وهو أعلى مرتبة في التكريم.
لا ننسى أيضًا تأثير الأدب على الثورة الفرنسية، إذ لعب الأدب الفرنسي دورًا كبيرًا في ترويض الشارع بعد الثورة. وفي روسيا لعب الأدب الروسي دورًا إيديولوجيًا في تأسيس (الاتحاد السوفييتي) من خلال (الواقعية الاشتراكية)، كما تشكلت فرقة أخرى معارضة للاشتراكية، قادها عدد من الأدباء الروس منهم (دوستويفسكي، بولغوكوف وسولجنتسين) الذين شكلوا هوية لثقافة الأدب الروسي عُرِفت بـ(أدب المقاومة).
في مطلع الثمانينات تراجع الاهتمام بالأدب، وتغلبتْ السينما العربية والغربية؛ لتكون محط أنظار العالم، ومنبر النقد للسياسة والزعامة والحكم. واستمر الحال على وتائر متباينة حتى ظهرت الـ(سوشيال ميديا)، وأصبح الفرد مسؤولًا عن توجهاته، من خلال شاشة جهاز هاتفه؛ فبات قادرًا على المطالبة بحقوقه، وكشف ما تقدمه الحكومات لشعوبها، والتأثير في القرار المتخذة إلى حد ما.
لكننا هنا فقدنا حلقة مهمة في العملية السياسية، هي مدى الوعي السياسي للقادة السياسيين، إذ تطورتْ أدوات الأفراد في النقد، وتراجعت أدوات السياسيين؛ ومنها فن الخطابة. لقد كان خطاب السياسيين أساس للحراك الجمعي وتنمية وتطوير العملية السياسية، فهو يكشف مدى وعي وعمق ثقافة الزعيم السياسي الذي يقود الدولة أو الحركة السياسية.
كلما اطلع على خطابات أنور السادات، أو جمال عبد الناصر، أو أقرأ مقتطفات من أقوال جيفارا، ثم آتي على عنصر المقارنة بينها وبين أقوال سياسينا اليوم اشعر بإحباط شديد. كان القائد يمتلك إرادة بناء وطن وتبني قضية، وكل ما يطمح إليه أن يؤثر في جماهيره فيصل إلى مرحلة سامية تضعه في وهج التاريخ، على العكس من طموح سياسيي اليوم، فأعلى طموحاتهم أن يقتنوا ساعات (روليكس) وأسطول مركبات فاخرة، وأرصدة في المصارف. فهُم يتباهون بحجم السرقات التي مارسوها والاحتيال الذي نصبوا به على الشعب، ويتهجمون على العلم والشهادات العلمية التي لم يتمكنوا من نيلها، فيقولون مثلًا عن الدكتوراه والماجستير: "طز وطزين"!
لقد أصبح العالِم ضمن طبقات المجتمع الفقيرة، أما الأديب فلم يتبقَ له سوى اتحادات فارغة تمنّ عليه بمنحة سنوية تافهة، وهي انعكاس حي لعقول السياسيين لأنها صدرت عنهم لتكميم أفواه الأدباء والصحفيين والفنانين، أما من تفوّق من هؤلاء فعليه أن يبحث لنفسه عن منفى.
من الصعب جدًا المقارنة بين الماضي والحاضر، ففي الماضي كان الثراء بالوعي والفكرة، ونادرًا ما نجد ثريًا تافهًا، حيث كان الثراء يمد جوهر الثري بالعلم والفكر والاتزان. أما اليوم، فمن المؤلم أن نرى سياسيينا فقراء للغاية؛ لا يملكون سوى المال.
بالأمس كان الجمهور يتسابق اذا ما سمع أن الرئيس سيخطب للشعب، وإن ظهر في شاشة التلفزيون فإن حدثًا ما سيحدث، وتدرّس الخطابات بشكل عميق، وتحلل من الناحية السيكولوجية لمعرفة مدى تأثيرها على المتلقي. أما اليوم فإذا ما حمل السياسي أو نجل السياسي الضغينة على الشعب؛ راح يتخبط في لقاءاته المزرية، وهيئته التي تنم عن مدى فراغه الثقافي، وقله وعيه السياسي، وثرائه الفاحش من أموال أبناء شعبه، والمشكلة لا تنحصر فيه، بل تمتد إلى بعض وسائل الإعلام، والإعلاميين الذين يروّجون له؛ مقابل مركبة من أسطول مركباته.
الظهور قضية حساسة جدًا في الوسط السياسي، واستخدام الأدوات في العلنية السياسية كالأدب والخطابة، أكثر حساسية في عملية التأثير على الوعي الجمعي لدى الجمهور. وما أره هو على عكس ما رآه توفيق الحكيم، فنحن نمر بمرحلة عودة الوعي قبل عودة الروح في المرحلة القادمة.