محمد حسن الساعدي
كاتب ومحلل سياسي
العراق وواشنطن.. توازن صعب في زمن التحولات الإقليمية.
يعد ملف العلاقة (العراقية–الأميركية) من اعقد الملفات واخطرها، إذ تمر بمرحلة دقيقة وحساسة بعد أكثر من عقدين من التواجد العسكري الأميركي في العراق، فيما تسعى الحكومة العراقية إلى صياغة سياسة خارجية متوازنة تراعي مصالحها الداخلية والإقليمية، مع الحفاظ على قنوات التعاون مع واشنطن في مجالات الأمن والاقتصاد.
أن من اهم ملامح السياسة العراقية تجاه واشنطن هو الانسحاب الأميركي التدريجي، فالادارة الامريكية أعلنت عن إنهاء عملية "العزم المتأصل" ضد تنظيم الدولة الإسلامية، لكنها أبقت وجوداً محدوداً تحت عنوان "استشاري"، ما يفرض على الحكومة العراقية إيجاد آلية واضحة في التعامل مع ما بعد خروج القوات الامريكية نهائياً، والتوازن بين القوى الإقليمية المجاورة للعراق، إذ يجد نفسه بين نفوذ إيران المتزايد ورغبة واشنطن في تقليص هذا النفوذ، ما يدفع الحكومة إلى انتهاج سياسة وسطية لتجنب الانحياز الكامل لأي طرف، بالاضافة الى الاقتصاد كأداة ضغط فالولايات المتحدة لا تزال تملك تأثيراً كبيراً على الاقتصاد العراقي، خصوصاً عبر النظام المالي العالمي والدعم التقني، وهو ما يجعل بغداد مضطرة للحفاظ على علاقات مستقرة مع واشنطن.
ناهيك عن الملف الأمني الذي يعتبر معقداً ومتذبذا، إذا ما علمنا أن خيوط هذا الملف ما زالت تمسكه الكثير من الاطراف الداخلية والخارجية، فبالرغم من تقليص عديد القوات الأميركية في العراق، ولكن يبقى التعاون العسكري قائماً عبر الطائرات المسيرة والدعم الاستخباراتي، وهو ما يثير جدلاً داخلياً بين القوى السياسية العراقية حول مدى استقلالية القرار الأمني.
رؤية العراق الأمنية والسياسية تجاه واشنطن تقوم على معادلة دقيقة، فالحفاظ على السيادة الوطنية هي من اولويات الحكومة العراقية والقوى السياسية، مع ضرورة استمرار التعاون الاستراتيجي، والانفتاح مع العالم ،وسط انسحاب أميركي تدريجي وضغوط إقليمية متزايدة، كما أن العلاقات العراقية–الأميركية لم تعد تُقرأ فقط من زاوية الوجود العسكري، بل من منظور أوسع يشمل الأمن، الاقتصاد، والسياسة الإقليمية، لذلك العراق يسعى إلى صياغة رؤية متوازنة تضمن مصالحه الوطنية دون الانجرار إلى محور واحد،في وقت تعيد واشنطن ترتيب أولوياتها في الشرق الأوسط.
المشهد العراقي – الأمريكي لم يعد مجرد علاقة بين دولة كانت محتلة وأخرى تبحث عن خلاصها، بل تحول إلى ساحة اختبار لإرادة بغداد في فرض سيادتها، ولقدرة واشنطن على إعادة صياغة نفوذها في الشرق الأوسط من خلالها، وان قرار الكونغرس الأمريكي بإلغاء تفويضَي الحرب لعامي 1991 و2002 وضع السيادة العراقية على المحك، وبدا وكأنه اعتراف متأخر بأن العراق لم يعد ساحة مفتوحة للتدخل العسكري، ولكنه في الوقت نفسه يطرح سؤالًا جوهريًا.. هل يكفي هذا الإلغاء لإقناع العراقيين بأن واشنطن تخلت عن عقلية الهيمنة على المنطقة وتريد فرض سطوتها عليها ؟
العلاقة بين بغداد وواشنطن تغيرت تماماً خلال عام 2025 ويأتي ذلك من خلال دخول شركات النفط الأمريكية، وعلى رأسها شيفرون، إلى قلب الحقول العراقية بعقود ضخمة، هذه الاستثمارات قد تبدو فرصة لإنعاش الاقتصاد، لكنها أيضًا تحمل بذور الارتهان إذا لم تُدار بعقلية وطنية تحفظ للعراق ثرواته وتمنع تحوّلها إلى ورقة ضغط أمريكية جديدة.
ما زالت واشنطن تواصل تدريب القوات العراقية وتقديم الدعم اللوجستي لكن ما زالت التساؤلات من العراقيين تطرح.. هل هذا التعاون يعزز قدرات الدولة أم يكرّس اعتمادها على الخارج؟ في ظل الصراع الدائر في المنطقة، وفي ظل ذلك يبقى العراق مهددًا بأن يتحول إلى ساحة لتصفية الحسابات بدل أن يكون دولة ذات قرار مستقل.
العراق يقف اليوم أمام مفترق طرق... إما أن يستثمر هذه المرحلة لبناء علاقة متوازنة مع واشنطن قائمة على الندية والاحترام المتبادل، أو أن ينزلق مجددًا إلى دائرة التبعية التي خبرها شعبه لعقود.
إنها لحظة الحقيقة… فهل يملك العراق الشجاعة ليقول لواشنطن: شراكة نعم، وصاية لا؟