أكاديمي عراقي لكوردستان24: هناك كنزٌ من وثائق الإبادة الجماعية يحتاج إلى منهجية علمية لإحيائه
أربيل (كوردستان 24)- في إطار أعمال المؤتمر العلمي الدولي الخامس حول الإبادة الجماعية ضد الشعب الكوردي، الذي شهد مشاركة نخبة من الباحثين والأكاديميين من داخل العراق وخارجه، استضافت شبكة كوردستان24 الدكتور رائد عبيس، الأكاديمي في جامعة الكوفة، الذي قدّم ورقة بحثية بعنوان «أنثروبولوجيا المقابر الجماعية في العراق بين البعد المعرفي والإنساني».
في هذا الحوار، يسلّط الدكتور عبيس الضوء على حجم الوثائق غير المدروسة المتعلقة بجرائم الإبادة، وأهمية إنشاء أرشيف وطني للذاكرة العراقية، ودور الجامعات في نقل الوعي التاريخي إلى الأجيال القادمة، مؤكداً أن “العراق غني بالوثائق لكنه يفتقر إلى المنهجية في قراءتها وإحيائها علمياً”.
كوردستان24: دكتور رائد، أهلاً وسهلاً بكم على شاشة كوردستان24.
د. رائد عبيس:
شكراً جزيلاً على الدعوة الكريمة، وسعيد بالمشاركة في هذا المؤتمر الهام.
كوردستان24:
دكتور، ذكرتم في ورقة عملكم أن هناك “أطناناً من الوثائق” المتعلقة بضحايا المقابر الجماعية في العراق لم تُدرس بعد. ما المقصود بهذه الوثائق، وأين هي محفوظة اليوم؟
د. رائد عبيس:
فعلاً، العراق يمتلك مخزوناً ضخماً من الوثائق التي توثق مراحل مختلفة من تاريخه، خصوصاً تلك المرتبطة بالإبادات الجماعية التي طالت الكُرد والأقليات العراقية وسائر المكونات.
هذه الوثائق جُمعت من مصادر متعددة:
منها ما أُنتج خلال فترة نظام صدام حسين داخل أجهزة الأمن والمخابرات، ومنها ما جمعته الفرق الدولية التي كانت تراقب أوضاع حقوق الإنسان، إضافة إلى جهود الأكاديميين والباحثين الأفراد الذين جمعوا وثائق من أماكن متفرقة.
بعد عام 2003 نُقلت كميات كبيرة من هذه الوثائق إلى الولايات المتحدة، تحديداً إلى مؤسسة هوفر، قبل أن يُعاد جزء منها إلى العراق.
المشكلة ليست في غياب الوثائق، بل في غياب المنهجية العلمية لإعادة قراءتها وتوظيفها. فهذه الوثائق يمكن أن تُدرَس أكاديمياً دون المساس بالأمن الوطني، بل لفهم التداعيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لتلك الجرائم.
كوردستان24:
وهل يمكن تحديد أماكن وجود هذه الوثائق اليوم؟
د. رائد عبيس:
بالتأكيد. قسم منها محفوظ لدى الحكومة الاتحادية في بغداد، وقسم آخر لدى حكومة إقليم كوردستان ومراكزها البحثية.
وهناك أيضاً مجموعات فردية، مثل مجموعة الدكتور صاحب الحكيم الذي جمع ما يقارب 80 ألف وثيقة تتعلق بالإبادة الكوردية وعمليات الأنفال وحلبجة، بما فيها شهادات لنساء وأطفال من الناجين داخل العراق وفي المنافي مثل إيران وتركيا.
لكننا بحاجة إلى مشروع وطني موحّد لتجميع هذه الوثائق في أرشيف وطني مركزي يضمن توثيق معاناة العراقيين جميعاً في جرائم الإبادة الجماعية.
كوردستان24:
هل تم دراسة هذه الوثائق أو الاستفادة منها أكاديمياً حتى الآن؟
د. رائد عبيس:
بعضها فقط. فالكثير من الوثائق جُمعت من خلال تقارير الصليب الأحمر ومنظمات العفو الدولية ولجان حقوق الإنسان التي تابعت العراق خلال الثمانينيات والتسعينيات.
كانت هذه التقارير تُرفع إلى مجلس الأمن الدولي وتصدر بلغات عدة، موثقةً الانتهاكات التي ارتكبها النظام.
هذه المادة الهائلة تراكمت عبر أكثر من أربعين عاماً، لكنها ما زالت بحاجة إلى دراسة تحليلية معمقة تُعيد قراءتها بمناهج علمية جديدة.
كوردستان24:
دكتور، تحدثتم عن أهمية إنشاء مركز وطني لحفظ الذاكرة العراقية. كيف تنظرون إلى هذا المشروع؟
د. رائد عبيس:
هو مسؤولية وطنية وأخلاقية قبل أن تكون علمية.
يجب على الحكومة العراقية، ووزارة الثقافة، ومؤسسات التعليم العالي، وكل الجهات المعنية أن تتعاون لإنشاء مركز وطني لأرشفة الذاكرة العراقية.
هناك تجارب واعدة، مثل المركز العراقي لتوثيق جرائم التطرف التابع للعتبة العباسية، وهو نموذج جيد يمكن البناء عليه لتجميع الوثائق من داخل وخارج العراق بطريقة آمنة وموضوعية.
كوردستان24:
ومن زاوية رمزية، هل ترون ضرورة تحويل مواقع المقابر الجماعية إلى معالم تذكارية دائمة؟
د. رائد عبيس:
نعم، بالتأكيد. القانون العراقي أشار إلى ذلك ضمن تشريعات تخص ذوي الشهداء والضحايا، لكنه لم يُفعّل بالشكل المطلوب.
إن إقامة معالم وشواخص في أماكن المقابر الجماعية يرسّخ الذاكرة الوطنية والإنسانية ويخلّد التضحيات.
وقد بدأت بعض الجامعات بتنظيم مؤتمرات وورش عمل في هذا الاتجاه، لكننا نحتاج إلى تكامل الجهود القانونية والاجتماعية والمعرفية لصياغة مشروع وطني شامل خالٍ من التسييس أو الادعاءات المتبادلة بالمظلومية.
كوردستان24:
وماذا عن الاهتمام الأكاديمي بدراسة المقابر الجماعية؟ هل هناك تطور في هذا المجال؟
د. رائد عبيس:
نعم، هناك اهتمام متزايد في السنوات الأخيرة، وبدأت تُكتب رسائل ماجستير وأطاريح دكتوراه عن هذا الموضوع، لكنّها ما تزال محدودة.
من وجهة نظري، هذا غير كافٍ.
نحتاج إلى تأسيس تخصص أكاديمي مستقل لدراسة المقابر الجماعية – سواء عبر معاهد أو برامج دراسات عليا – لإعداد جيل من الباحثين المتخصصين، بحيث تتحول المؤتمرات القادمة إلى لقاءات بحثية علمية بحتة تستند إلى دراسات ميدانية موثقة.
كوردستان24:
أشار الرئيس بارزاني إلى أهمية نقل معاناة الكورد والعراقيين إلى الأجيال القادمة. أكاديمياً، كيف يمكن تحقيق ذلك؟
د. رائد عبيس:
هذا ممكن جداً. الجامعات يمكنها أن تقوم بدور محوري من خلال المعارض التوثيقية، والمجسمات، ومقتنيات الضحايا، والأبحاث العلمية، والبرامج الدراسية.
لكننا بحاجة إلى توسيع نطاق هذا العمل ليصل إلى الوعي المجتمعي العام وليس فقط داخل قاعات الجامعات.
وزارة التعليم العالي العراقية أصدرت فعلاً منهجاً بعنوان «التعريف بجرائم حزب البعث» يُدرَّس لطلبة السنة الأولى والثانية، وهو خطوة مهمة، وأتمنى أن تعتمد حكومة الإقليم منهجاً مماثلاً لتعريف الأجيال القادمة بطبيعة الجرائم التي ارتُكبت بحق الشعب العراقي والكردي خاصة.
كوردستان24:
هل يُعدّ هذا المنهج إلزامياً في الجامعات العراقية؟
د. رائد عبيس:
هو منهج ساند لمادة الحقوق والعلوم الإنسانية، يهدف إلى تعريف الطلبة بطبيعة الجرائم والانتهاكات، ليكتسبوا وعياً تاريخياً وحقوقياً.
هذا الوعي يؤدي لاحقاً إلى تنمية شعور بالمسؤولية والإنصاف والمطالبة بالحقوق، وهو ما نحتاجه لبناء مجتمع مدني متصالح مع ذاكرته.
كوردستان24:
دكتور رائد، شكراً جزيلاً على هذا الحوار الغني، ونتمنى أن تتحول هذه الجهود الأكاديمية إلى مشاريع وطنية تحفظ ذاكرة العراق وتُعيد الاعتبار للضحايا.
د. رائد عبيس:
الشكر لكم ولشبكة كوردستان24 على اهتمامها المتواصل بهذه القضايا الإنسانية والوطنية.
