
علاء الدين آل رشي
مدير المركز التعليمي لحقوق الإنسان
نوروز بين العُرف والمبالغة في التدين

لا يزال بعض المتحمسين ممن أحسنوا الظن بأنفسهم، فظنوا أنهم وحدهم حراس العقيدة وحماة الشريعة، يُصرّون على أن يجعلوا من الإسلام مرصاداً على كل ما يطرأ في حياة الناس من مظاهر العادة أو أفراح المناسبة، فيُقحمونه في غير مواضعه، ويُلبسونه لبوس الريبة في غير موضع تهمة، فيُحرّمون ما لم يُحرّمه الله، ويبدّعون ما لم يرد فيه نصٌّ، ويكفّرون على ما لا يُنافي أصلًا من أصول الدين. وليس هذا من الفقه في شيء، ولا من الورع، بل هو جهل بمقاصد الشريعة، وإخلال بموازين الحكمة، ومصادمة لرحمة هذا الدين التي بُعث بها النبي الكريم، رحمةً للعالمين.
وقد كثر في الآونة الأخيرة الكلام حول ما يُسمّى بـ"عيد نيروز"، وانبرى بعض المتصدّرين للفتوى بتحريمه، بدعوى أنه ليس من أعياد الإسلام، أو أنه متصل بطقوس لا تجوز. ولا أدري على أي أصل شرعي استندوا في ذلك؟ وأيّ نصٍّ بيّن حرّم على الناس أن يتلاقوا في مناسبة اجتماعية، ما دامت بريئة من المخالفة، سالمة من المفسدة؟
إن أصول الشريعة، كما قرر المحققون، تجري على أن الأصل في الأشياء الإباحة، ما لم يرد نصٌّ صحيح صريح بالتحريم. بل إن العرف - وهو ما اعتاده الناس وتواطؤوا عليه، من غير أن يُعارض نصًّا أو أصلًا - معتبر في بناء الأحكام الشرعية، تُراعى به الفتوى، ويُستأنس به في تنزيل الحكم على واقعه. أليس من قواعدهم قولهم: "العادة محكّمة"، و*"المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا"*؟ فكيف تُهدَر هذه القواعد المحكمة، لمجرد أن المناسبة لا توافق ذوق البعض أو عاداته الخاصة؟
إن نيروز، عند أبناء الشعب الكردي، ليس بدعة دينية، ولا طقسًا يُضاد أصول التوحيد، بل هو مناسبة اجتماعية موغلة في القدم، ذات رمزية ثقافية، تحتفي بتجدد الحياة، وانبعاث الطبيعة، وتُعبّر عن الأمل بالحرية والكرامة. ولئن احتفل به الزرادشتيون من قديم، فإن شعوبه اليوم، على اختلاف أديانهم، يحتفلون به بوصفه موسمًا للربيع، ومهرجانًا للبهجة، لا شعيرة من شعائر الاعتقاد.
وليس في طقوسه – من إشعال النار، أو مائدة الرموز، أو الخروج إلى الطبيعة – ما يخرج به عن دائرة المباح، بل كلها تقاليد اجتماعية، لا تتجاوز حدود العادة، ولا تمسّ أصلًا من أصول الدين. وقد علمت أن مائدة "الهافت سين" – وهي من طقوس نوروز – تحمل رموزًا لا علاقة لها بالمحظور، بل تدل على معانٍ من قبيل الصبر والصحة والحياة، وإن كان بعضها مما يثير الاستغراب، فإنه لا يرتقي لأن يُجرَّم أو يُستنكر على وجه العموم، ما دام في نطاق المباح.
ولئن كان الإسلام قد حدّد للمسلمين عيدين اثنين، فإن ذلك لا يعني إلغاء كل مظاهر الفرح الأخرى، أو تحريم ما لم يسمِّه الشرع عيدًا. فكم من مناسبة اجتماعية أقرّها الشرع ولم يُمانع فيها، ما دامت لا تناقض عقيدة ولا تُشهر معصية. وهذا ما فهمه أهل الفقه والاعتدال من علمائنا، فميّزوا بين ما هو من شعائر الدين، وما هو من سنن الحياة.
وإنما الذي يدعو للأسى، أن يتخذ بعض المتحمّسين من غير الراسخين في العلم من هذه المناسبات منابر للطعن، وذرائع للتشنيع، وكأنهم وكّلوا أنفسهم بمحاكمة الناس على نواياهم، وإدانتهم على أعرافهم، دون علم ولا هدى ولا كتاب منير.
وقد وقفت على منشور لأحد الإخوة من أبناء الديانة الإيزيدية، يعرب فيه عن ضيقه مما يراه تضييقًا من بعض المسلمين في مثل هذه المناسبات، بل حمّل الإسلام مسؤولية ذلك. وأنا لا أقبل هذا التعميم، ولا أرضى أن يُنسب إلى الإسلام ما ليس منه، ولكنني في الوقت ذاته، لا أنكر أن ما يُقال باسم الدين على ألسنة بعض الجهلة قد يُغذّي هذه الصورة، ويُعطي الخصوم مادة للطعن، خاصة حين يُغيب فقه الأولويات، وتُجهل ضوابط العرف، ويختلط التدين بالهوى.
إن التدين الحق لا يكون بتضييق واسع، ولا برفض المختلف، وإنما بحسن الفهم، ورحمة القلب، وحكمة الكلمة. والإسلام، كما بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يأتِ ليجعل من الدين عبئًا على الناس، بل جاء تيسيرًا ورحمة. وكان يقرّ أعراف القوم ما لم تخالف شرع الله، ويُخاطب الناس بما تطيقه عقولهم وتفقهه طبائعهم.
فمن الإجحاف أن يُختزل الدين في محاربة كل عادة مألوفة عند قوم، أو أن يُجعل من العرف ذريعة للتأثيم والتبديع. بل الواجب أن يُعاد النظر في كثير مما يُقال باسم الدين، وأن يُفرّق بين ما هو من جوهر العقيدة، وما هو من دائرة العادة التي وسّع فيها الشارع الحكيم.
فيا من تصدّرتم للفتوى، تفقّهوا في الدين قبل أن تتكلموا باسمه، ووزنوا الكلام بميزان المآلات، وراعوا مقاصد الشريعة في جمع الكلمة وتآلف القلوب، ولا تجعلوا من الدين سوطًا يُجلد به الفرح، ولا مطرقة يُهدم بها البناء.
ويا أبناء شعبنا الكردي، إننا نشارككم فرحتكم بنيروزكم، ما دام في إطار المباح، لا يناقض دينًا، ولا يخرق حرمًا، بل ربما دعا الشرع إلى مؤازرته، إن كان فيه ما يُقوّي المودة، ويُلئم الشّعَب، ويُقرّب المسافات بين القلوب.
فلعلّ في نوروز درسًا آخر نتأمله: أن الحياة، وإن طال ليلها، لا بد أن تُزهر من جديد.