
علاء الدين آل رشي
مدير المركز التعليمي لحقوق الإنسان
من الشك إلى الشراكة.. الكورد والعرب في مشروع الدولة الجامعة

في لحظة مفصلية من التاريخ السوري، تعود الدولة السورية لتؤكّد على ثوابتها التي لم تتغير، رغم سنوات الصراع، وتعدد الأطراف، وتباين المشاريع والرؤى.
تصدر الحكومة السورية بيانًا يعبّر عن موقف استراتيجي تجاه الاتفاق الموقع مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، مؤكدًا على:
1. التمسك بجوهر الكيان الوطني ووحدة الأرض والشعب.
2. معلنةً بوضوح أن أي تقارب مرحّب به إذا ما اندرج ضمن مشروع الدولة السورية الواحدة، لا في سياقات التجزئة أو الإملاءات الخارجية.
إننا أمام خطاب يتجاوز اللغة السياسية المباشرة، ليلامس روح المفهوم الوطني الذي طالما مثّل محور التوازن السوري، على اختلاف انتماءات مكوناته.
ففي هذا البيان، نقرأ دعوةً لا إلى الاستسلام أمام أمر واقع فرضته تطورات الحرب، ولا إلى اجتراح حلول عنوة، بل إلى العودة إلى الدولة، بصفتها مرجعية دستورية، ومؤسساتية، وأخلاقية، تُنهي التبعثر وتُعيد الاعتبار للهوية السورية التي كادت أن تُبتلع في زحمة المشاريع المتنازعة.
فالدولة السورية هنا لا تُمانع في أي خطوة تعزز وحدة الأرض، بل ترحب بها، حتى وإن كانت برعاية أمريكية، ما دام المآل هو لمّ الشمل تحت سيادتها، لا التفريط بجزء من كيانها. وهذا الموقف، على ما فيه من مرونة في الشكل، ينطوي على صرامة في الجوهر، حين يجدد رفضه القاطع لأي صيغة للفدرلة أو التقسيم، تُفرغ الكيان السوري من مضامينه، وتجعله أرضًا مفتوحة للوصايات.
ولعل هذه الثنائية بين الترحيب والانتباه، بين الانفتاح والتحذير، تعبّر عن فهم عميق لتعقيدات اللحظة، فالدولة لا تنكر أن هناك تحديات تواجه قسد، لكنها تؤكد، في الآن ذاته، أن التباطؤ أو التردد في تنفيذ الاتفاقات الموقعة لا يصب إلا في مصلحة استمرار التوتر، ويعيق عودة الأمان والاستقرار إلى الشمال الشرقي من البلاد، بل إلى كامل التراب السوري.
من هنا تأتي مركزية الجيش السوري في هذا البيان، لا كقوة عسكرية فحسب، بل كمؤسسة وطنية جامعة، تتسع لكل السوريين، بصرف النظر عن انتماءاتهم، ما داموا يلتزمون بمرجعية الدولة والدستور. فالمقاتلون في قسد، كما غيرهم، مرحب بهم في صفوف الجيش، شريطة أن يكون الانضمام ضمن الإطار الدستوري، لا خارج السياق القانوني الذي يضبط العلاقة بين الدولة وأبنائها.
إن هذا الطرح ليس مجرد استيعابٍ تقنيٍّ لطرف مسلح، بل هو جزء من رؤية تُعيد بناء الجسم السوري من داخله، لا بفرضيات فوقية، ولا بمقولات تستنسخ تجارب الآخرين. إنه يُعيد تعريف العلاقة بين المركز والأطراف، لا من منظور القوة، بل من زاوية الدور المشترك في صيانة الكيان، وتثبيت الاستقرار، ورفع حالة الارتباك الإداري، التي طالت حياة المواطنين، وأضعفت الثقة بالدولة.
ولأن العودة إلى الاستقرار لا تتم عبر الشعارات، بل عبر تفعيل مؤسسات الدولة، جاءت الدعوة الواضحة إلى عودة مؤسسات التعليم، والصحة، والخدمات، والإدارة المحلية، إلى مناطق الشمال الشرقي، بما يعكس نية الدولة في الانخراط الإيجابي مع المواطنين، وتحمّل مسؤوليتها المباشرة، بدل ترك المساحات مشرعة أمام سلطات الأمر الواقع، أو الفاعلين الخارجيين.
وهنا يبرز البعد الأخلاقي والسياسي للبيان، حين يُذكّر أن المراهنة على مشاريع الانفصال، أو الانخراط في الأجندات الإقليمية والدولية، لم تُنتج إلا مزيدًا من التعقيد، وأثبتت في مجملها أنها رهان خاسر، لا على صعيد البناء السياسي، ولا في صون الحقوق. فالهوية الوطنية الجامعة هي الملاذ، وهي وحدها التي يمكنها احتضان جميع الأطياف، دون تمييز، ودون فرض وصاية من أحد على أحد.
إن الاعتراف الصريح بأن المكون الكردي جزء أصيل من النسيج السوري، لا يُعدّ منّة، بل هو تصويبٌ للرؤية، وتثبيتٌ لمبدأ الانتماء المشترك. فالكردي، كما العربي، والسرياني، والآشوري، والتركماني، والدرزي، جزء من هذا الكيان، حقوقه مصونةٌ في مؤسسات الدولة، لا في مؤسسات موازية، ولا في كيانات منفصلة تتناقض مع روح الدولة الواحدة. وقد كان في هذا التصريح ردٌّ على ما شاع من مخاوف مشروعة لدى المكونات المختلفة، لا سيّما الكرد، الذين طالما خافوا من التهميش، أو القمع، فجاء البيان ليُعلن أن الدولة ليست ساحة صراع مكونات، بل حضنٌ لها جميعًا.
ولم يفت الدولة في ختام بيانها أن تمدّ يدها لجميع القوى الوطنية، تدعوهم إلى تجاوز الحسابات الصغيرة، والانخراط في مسار وطني جامع، لا مكان فيه لا للخصومات الهامشية، ولا للتبعية الإقليمية أو الدولية، بل للمشاركة الفعلية في إعادة بناء سوريا الجديدة، الآمنة، الموحدة، المستقلة، التي تملك سيادتها كاملة على ترابها، دون استثناء، ولا مساومة.
وهنا، يظهر نَفَس الدولة العميقة، التي لم تستسلم لتقلبات الحرب، ولا لانقسامات الخارطة، بل لا تزال ترى نفسها مرجعية السوريين جميعًا، لا طرفًا في نزاع، ولا متفرجًا على اشتباك. وهذا الطرح، وإن تأخر في الظهور، يفتح الباب أمام مقاربة جديدة، تستعيد السياسة بوصفها فنًّا للتقريب، لا أداة للإقصاء، وتعيد الاعتبار لفكرة الوطن، لا بوصفه ترابًا فقط، بل بوصفه مشروعًا أخلاقيًّا، وحضاريًّا، وثقافيًّا، يتطلب من الجميع الإيمان به، والمشاركة في صونه، والدفاع عنه.
لقد آن لسوريا أن تبدأ رحلة العودة إلى ذاتها، عبر الاعتراف بالأخطاء، والاستفادة من الدروس، والانفتاح على الحلول الممكنة، بعيدًا عن الشعارات، وبعيدًا عن الإملاءات. ولعلّ هذا البيان، بكل ما فيه من وضوح وتحفّظ، من دعوة وتحذير، يشكّل نواةً يمكن البناء عليها، إذا ما خلصت النوايا، وتلاقى السوريون على ما يوحّدهم، لا ما يفرّقهم، وعلى ما ينهض بهم، لا ما يغرقهم في دوامة الأوهام.
إنه خطاب دولة لم تتخلّ عن شعبها، وإن تخلّى عنها بعضه، ولم تغب عن مشهده، وإن ابتعدت عن عينيه. وهو نداءٌ للعقل، قبل أن يكون إعلانًا سياسيًّا. فهل من مجيب؟
في ضوء البيان الرسمي الأخير، لا يكفي أن نقف عند حدود التحليل السياسي أو تفكيك اللغة والمواقف، بل ينبغي أن نرتقي إلى السؤال الأعمق:
ما هو الواجب اليوم على السوريين جميعًا، عربًا وكردًا، وهم يقفون عند مفترق تاريخي بين التشظّي والانبعاث؟
الواجب الأول هو التحرّر من ثنائية الضحية والجلاد إذا أُسيء توظيفها، والانتصار لفكرة الوطن بوصفه سقفًا جامعًا لا يقبل الاستبداد، كما لا يقبل الانفصال.
لقد جرّب السوريون، عربًا وكردًا، الانخراط في مشاريع خاصة أو معارك مؤقتة، لكن تلك التجارب، في معظمها، أفضت إلى إضعاف المكوّنات ذاتها، لا إلى حمايتها، وإلى تعميق الانقسامات بدل رأبها.
واليوم لا بد من الاعتراف الصريح بأن لا أحد يمكنه بناء سوريا وحده، ولا مكوّن يستطيع الادّعاء بأنه الوكيل الحصري عن البلاد.
الواجب الثاني هو الانخراط الجاد في مشروع الدولة الوطنية الجامعة، لا بالعودة القسرية، ولا بالتفاهمات الهشة، بل بالحوار الحقيقي الذي يُنهي هواجس الجميع، ويؤسّس لوطنٍ يسع الجميع بحقّ. إن الكرد، وهم مكوّن أصيل، لا يصح أن يكونوا هامشًا في المعادلة، ولا جزيرةً معزولة عنها. كما أن على العرب أن يدركوا أن مفهوم العروبة لا يتناقض مع التعدد القومي، بل يتكامل معه، إذا ما نُظر إليه بوصفه إطارًا حضاريًا لا عرقيًا.
الواجب الثالث هو العمل على تثبيت مبدأ "الحقوق ضمن الدولة"، لا خارجها، لأن أيّ حق لا تضمنه مؤسسات وطنية شرعية، سرعان ما يُحوّل إلى ذريعة للانقسام أو سبب للتدخل الخارجي. ومن هنا فإن مطالبة الكرد بحقوقهم الثقافية واللغوية والاقتصادية والسياسية يجب أن تُحتضن من داخل الدولة، وأن يتحوّل الاعتراف بها إلى مدماك لوحدة سوريا، لا إلى عنوان لخوف الآخرين.
الواجب الرابع هو اليقظة من مشاريع الاستقواء بالخارج، سواء باسم الحماية الدولية أو المصالح الإقليمية. فالتاريخ لم يشهد أن أمة استعادت سيادتها عبر وصاية الآخرين. وقد جرّب الجميع – عربًا وكردًا – الاستعانة بالخارج، فكانت النتيجة دويلات مفرّغة من القرار، ومناطق محكومة بالارتهان، وخرائط تُرسم في العواصم لا في البيوت.
الواجب الخامس هو أن يتوجّه الجميع نحو بناء الدولة، لا السلطة. فالدولة هي التي تحمي الحقوق، وتوزّع الواجبات، وتحفظ التعدد، وتُنهي الاستئثار. أما السلطة، حين تنفصل عن الدولة، فإنها تتحوّل إلى أداة للهيمنة، سواء باسم الأكثرية أو باسم التمثيل القومي أو الطائفي.
إن الواجب الأكبر هو أن يتحرّر السوريون من عقلية الثأر، ومن أحقاد الحرب، وأن يدركوا أن ما يجمعهم أكثر بكثير مما يُفرّقهم، وأن أي اتفاق لا يُبنى على الإنصاف والتكافؤ والكرامة، لن يصمد طويلاً.
النداء اليوم ليس موجهًا فقط إلى قسد ولا إلى الدولة المركزية، بل إلى كل السوريين، عربًا وكردًا، سنةً وعلويين، مسيحيين وإسماعيليين، بدوًا وحضرًا... ليعيدوا التفكير في المشروع السوري الكبير، المشروع الذي لا يُختزل في سلطة ولا يُنجز بانفصال، بل يُبنى بالدم والكرامة والحوار، حتى تكون سوريا، فعلاً، لكل أبنائها.