من سايكس-بيكو إلى خطاب باراك: الغرب وسوريا مجددًا.

من سايكس-بيكو إلى خطاب باراك: الغرب وسوريا مجددًا.
من سايكس-بيكو إلى خطاب باراك: الغرب وسوريا مجددًا.

من يقرأ تصريح السفير الأميركي لدى تركيا، السيد توم باراك، يخيّل إليه أن الغرب قد أفاق فجأة من غفلته، فبدأ يراجع خرائطه، ويصحح أخطاءه، ويعيد النظر في سردية الهيمنة باسم التحضر. فالرجل يتحدث بلغةٍ نقدية غير معهودة: يدين سايكس-بيكو، ويقرّ بأنّ الخرائط التي رُسمت بالقلم البريطاني والفرنسي لم تصنع سلامًا، بل شرذمت المنطقة لحساب الإمبراطورية، لا الشعوب. ويعدنا نحن شعوب الشرق الأوسط أن الخطأ لن يتكرر. لكن هل يكفي الاعتراف؟ وهل تستطيع الكلمات وحدها أن تداوي جراح مئة عام من التجزئة والوصاية والدم؟ وهل ينطوي هذا الخطاب رغم ما فيه من نبرةٍ تصالحية على رؤية جديدة فعلاً أم مجرد إعادة تسويق لمواقف مأزومة فقدت بريقها الأخلاقي؟ يقول السفير الأميركي إنّ سايكس-بيكو قسّمت سوريا والمنطقة لحساب الإمبراطورية لا من أجل السلام، وهذا في ذاته تصريح مهم؛ ليس لأننا نجهل ذلك، بل لأنّ الغرب نفسه نادرًا ما يعترف بمسؤوليته التاريخية، فغالبًا ما يُروّج، خاصة في الرواية الأميركية الرسمية، أنّ تدخلاتهم في المنطقة جاءت لنشر الديمقراطية، أو مكافحة الإرهاب، أو حماية الأقليات. لكنّ الحقيقة التي يعرفها كل من قرأ تاريخ المنطقة بإنصاف، أن الحدود لم تكن فقط خطوطًا على الخريطة، بل كانت سياجًا للهيمنة، ونواة صراعات لاحقة، حُرم فيها شعبٌ من هويته، وآخر من دولته، وثالث من قراره. لم تكن سوريا وحدها الضحية، بل العراق، ولبنان، وفلسطين، والأكراد، والأرمن، والموارنة، والسنة والشيعة والدروز، بل حتى اللغة والدين والعقل السياسي تعرضوا لتشويهٍ مقصود. فهل ينوي السفير الأميركي اليوم أن يُعيد الاعتبار للمظلومين؟ أم يريد فقط أن يُعيد تموضع السياسة الأميركية بلغةٍ لينة بعدما فشلت لغة الحديد والنار؟ يقول السفير: لقد انتهى عصر التدخل الغربي. المستقبل هو للحلول الإقليمية. لكن من الذي حوّل الشرق الأوسط إلى ساحةٍ لتدخلات متتالية؟ من الذي أجهض الربيع العربي؟ من الذي سوّق لنظام الأسد من تحت الطاولة، وبارك تدخلات إيران وروسيا باسم مكافحة الإرهاب؟ من الذي أعاد تأهيل الأنظمة الأمنية بحجة الاستقرار، وفتح الأبواب لحروب الوكالة، ثم الآن يتحدث عن عدم التدخل؟ إنّ فكرة أن الغرب سينسحب احترامًا لسيادة الدول فكرة مثالية لا تعكس الوقائع. فالغرب، في صورته الحالية، لا يزال فاعلًا مهيمنًا لا من خلال الدبابات هذه المرة، بل عبر أدوات أكثر تطورًا: الاقتصاد، الإعلام، القواعد العسكرية، التكنولوجيا، والمنظمات الدولية. وإذا كان ترامب كما أشار السفير قد أعلن في الرياض أن زمن المحاضرات الغربية قد انتهى، فإنّ هذا الإعلان ذاته لم يمنع إدارته من دعم صفقة القرن، أو منعها من فرض عقوبات على شعوب المنطقة بينما تساوم الأنظمة. تحدث السفير عن مأساة سوريا وكأنها حادث عابر أو مأساة قدرية، قال: مأساة سوريا وُلدت من الانقسام، وقيامها لا بد أن يكون بالكرامة والوحدة والاستثمار في الإنسان. وهذا صحيح من حيث المبدأ، لكن ينقصه أهم شرط للشفاء: تسمية الجاني. سوريا لم تُقسم بفعل قدرٍ أعمى، بل بفعل نظام دموي تحالف مع الخارج ضد شعبه. الأسد لم يكن مجرّد ديكتاتور محلي، بل امتدادٌ لنظام سايكس-بيكو ذاته: يحكم باسم الحدود لا باسم الناس، ويحتمي بالقوى الدولية لا بالإجماع الوطني. كان أقسى مظاهر الاستعمار الداخلي، مسنودًا من الاستعمار الخارجي. فإن كانت أميركا اليوم ترى أن سقوط النظام قد فتح الباب، فإننا نسأل: هل هذا اعتراف بانتهاء شرعيته؟ وهل ستدعم الولايات المتحدة تحقيق العدالة، أم ستكتفي بإدارة المشهد الجديد تحت عنوان الحلول الإقليمية؟ يبشّر السفير بتعاون جديد مع تركيا، ودول الخليج، وأوروبا. وهذا مفهوم في سياق التحولات الجارية. لكنه لم يذكر مع من من السوريين ستتم هذه الشراكة. هل مع الدولة العميقة التي ورثت الخراب؟ أم مع قوى المعارضة؟ أم مع الشعب المهجّر الذي أصبح شريكًا في المعاناة دون أن يُستشار في تقرير مصيره؟ أيضًا، يربط السفير الحل بالشراكة مع المنطقة لا من حولها. ولكن ماذا عن دور إيران؟ ماذا عن التغلغل الروسي؟ ماذا عن المجازر؟ ماذا عن الملفات المغلقة من جرائم الحرب؟ إذا لم تكن أميركا راغبة في محاضرتنا، فلتكن على الأقل راغبة في دعم العدالة، لا تدوير المجرمين. لا أحد يطلب من أميركا أن تعتذر، ولكن المطلوب منها اليوم أن تتصرف بمسؤولية، لا بتعالٍ ناعم. أن تضع مصالح الشعوب في مركز المعادلة، لا مصالح الأنظمة. أن تدعم العدالة الانتقالية، لا صفقات العفو. أن تحترم القرار الوطني لا تُملي خارطة نفوذ جديدة بحجة التوازنات. نريد من واشنطن أن تُعامل السوريين كشعبٍ يستحق الحياة، لا كملفٍ دبلوماسي أو حالة إنسانية. أن تخرج من منطق إدارة الأزمة إلى منطق حلّ الأزمة. أن تُدرك أنّ الاستقرار لا يتحقق إلا بالحرية، ولا حرية دون محاسبة، ولا محاسبة بلا كشف الحقيقة. قد يكون خطاب السفير الأميركي إشارة لتحولٍ في الخطاب، لكنه لن يكون ذا أثر حقيقي ما لم يرافقه تحوّل في السياسات. الاعتراف بالخطأ لا يعوّض عن التصحيح. والموقف من نظام الأسد لا يكفي أن يكون ضمنيًا، بل يجب أن يكون واضحًا: لا شرعية لمجرم، ولا مستقبل لنظام بُني على المقابر. إنّ سوريا اليوم لا تحتاج إلى محاضرات، ولا إلى وعود، بل إلى ضمانات: أن لا يُفرض عليها نظامٌ جديد بالوصاية، وأن تُترك لتصنع مستقبلها بكرامة. فكما قال السفير: Gone are the days of lectures – ولكن لن تنتهي أيام الشكّ حتى نرى أفعالًا تليق بتلك الأقوال. وإذا كانت واشنطن قد فتحت الباب لمرحلة جديدة، فإن الخطوة الأولى هي الاعتراف الصريح بالجرائم المعاصرة، لا فقط تلك المدفونة في خرائط القرن الماضي. وحينها فقط، يمكن لخطاب السفير باراك أن يتحول من نصٍ بلاغي إلى وعدٍ أخلاقي وسياسي له وزنُه واحترامُه