
علاء الدين آل رشي
مدير المركز التعليمي لحقوق الإنسان
كوردستان العراق بين ضرورات الاستقرار وتحولات الإقليم.. قراءة في لحظة مفصلية أعدها أ. أحمد الزاويتي

بين الجغرافيا الملتهبة والتحولات السياسية الكبرى، تقف كردستان العراق على مفترق طرق حساس، إذ تتداخل في حاضرها ومستقبلها معادلات الراهن العراقي، والتقلبات الإقليمية، واستراتيجيات القوى الدولية.
كيف يمكن قراءة هذه اللحظة؟ وإلى أي مدى تستطيع كوردستان صياغة دورها لا بوصفها هامشًا تابعًا، بل فاعلًا ضمن توازنات مضطربة؟
أسئلة ملحة يحاول أ. الزاويتي استشفاف كل ذلك فمن جديد، يعود إقليم كردستان العراق إلى صدارة الاهتمام الإقليمي والدولي، ليس فقط لما له من وضع خاص في المعادلات العراقية الداخلية، بل لما يمثله من تقاطع للسياسات المتضاربة على مستوى الإقليم والفاعلين الدوليين. فموقع الإقليم في ملتقى أربع قوى إقليمية كبرى (العراق، تركيا، إيران، وسوريا)، ويعيش تحت ضغط مركّب من السياسات الأميركية، وامتدادات الصراع الإيراني – الإسرائيلي، فضلًا عن تحولات الداخلين التركي والعراقي.
كل ذلك يجعلنا نعيد القراءة بمنهجية دقيقة حيث في المقالٍ التحليلي للأستاذ أحمد الزاويتي، تمت الإشارة إلى جملة من المتغيرات المتسارعة في مشهد الشرق الأوسط، ووقف عندها بوصفها مفاتيح قراءة لما قد تؤول إليه الأوضاع في كردستان العراق، وفي الجوار السوري والعراقي على وجه التحديد.
وسنحاول هنا التوقف عند أهم تلك النقاط، ثم نقدّم قراءة مكملة للمشهد.
إعادة تشكّل الإقليم بين ثلاث قوى: بغداد، أنقرة، وواشنطن
يشير أ. الزاويتي إلى أن الضغط المتواصل من الحكومة الاتحادية في بغداد على الإقليم – من خلال وقف تصدير النفط وتعليق إرسال الرواتب – لا يُفهم خارج سياق أوسع من الترتيبات السياسية الجديدة في المنطقة.
إذ يبدو أن بغداد تُبقي على هذا الضغط بوصفه ورقة تفاوض، في ظل غياب أي تسوية شاملة للعلاقة بين المركز والإقليم.
أمام هذا الواقع، لا تجد حكومة الإقليم بدًّا من التوجّه نحو تركيا والولايات المتحدة لضمان الحد الأدنى من الاستقرار السياسي والاقتصادي، ولو في إطار شبه الدولة. فالمعادلة اليوم لم تعد محصورة في الحدود الجغرافية، بل في موازين القوة بين القوى الكبرى على الأرض.
التحوّل السوري وانعكاساته على الإقليم لا يقل الملف السوري خطورة في هذا السياق.
إذ إن سقوط نظام بشار الأسد – وفق ما يفترضه أ. الزاويتي – فتح الباب أمام ترتيبات سياسية جديدة تتقاطع مع النفوذ الكردي في شمال سوريا. ويكتسب الاتفاق بين الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع وقائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي دلالة خاصة، إذ يعكس رغبة الطرفين في تجنّب صدام عسكري مباشر، مع إفساح المجال أمام تسوية مؤقتة تقوم على اللامركزية الأمنية والإدارية.
غير أن أ. الزاويتي لا يغفل عن احتمال انهيار هذا التفاهم، خاصة مع وجود اعتراضات تركية على الدور المتنامي لقوات قسد، وتوجس روسي – إيراني من محاولة واشنطن تثبيت واقع ميداني جديد في شرق الفرات.
تركيا: مراجعة لدورها الإقليمي عبر البوابة الكردية
ضمن هذا السياق، يُبرز أ. الزاويتي إعلان حزب العمال الكردستاني حل نفسه استجابة لرسالة أوجلان، بوصفه مؤشرًا على بداية مرحلة جديدة في العلاقة بين أنقرة والمكوّن الكردي داخل تركيا وخارجها.
هذه الخطوة، التي رُوّج لها باعتبارها انتصارًا لأردوغان في معادلة الداخل، قد تكون بوابة لإعادة تعريف العلاقة مع أكراد سوريا والعراق، إذا ما رافقها مسار حقيقي لحل القضية الكردية في تركيا.
لكن في المقابل، تواجه الحكومة التركية تحديات داخلية متزايدة، لا سيما بعد اعتقال أكرم إمام أوغلو، أبرز منافسي أردوغان، ما أطلق موجة احتجاجات شعبية تضع شرعية النظام السياسي تحت مجهر المعارضة والمجتمع المدني التركي.
إيران على خط التوتر: من النووي إلى النفوذ الإقليمي
لا تغيب إيران عن المشهد، بل تتصدره. فمع تعثر المفاوضات النووية، وتصاعد التهديدات الأميركية والإسرائيلية، تجد طهران نفسها أمام استحقاق وجودي، يفرض عليها تعزيز التحالف مع روسيا والصين، وبذل جهد أكبر للحفاظ على حضورها في العراق وسوريا ولبنان.
بيد أن هذا الحضور لم يعد مضمونًا، لا سيما في ظل الضغوط الأميركية لنزع سلاح الحشد الشعبي، والتململ الشعبي الشيعي من ارتباط القرار العراقي بطهران.
سيناريوهات المستقبل: بين الاستمرار والتغيير
يقسّم الزاويتي مسارات المستقبل إلى ثلاثة سيناريوهات رئيسة:
أولها: الاستمرار في الوضع القائم مع تصاعد التوترات، بحيث تبقى العلاقة بين أربيل وبغداد مأزومة، وتستمر الضغوط الخارجية، دون حلول حقيقية.
ثانيها: سيناريو التصعيد الإقليمي، إذا تفجّر صراع إيراني – إسرائيلي، أو اندلعت اشتباكات بين تركيا وقسد في شمال سوريا.
ثالثها: سيناريو التغيير الجذري، سواء في العراق أو سوريا، وهو سيناريو جذاب نظريًا، لكنه صعب التحقق واقعيًا.
رؤية تحليلية نقدية لما ذهب إليه أ. أحمد الزاويتي
مع أهمية ما أورده الإعلامي أحمد الزاويتي من تحليلات، إلا أن بعض ما ورد يحتمل النقاش:
أولًا، سقوط النظام السوري لا يفضي تلقائيًا إلى انسحاب إيراني، فطهران أثبتت قدرة على التأقلم عبر أدوات جديدة[ فالي نصر، قوة إيران الناعمة في المنطقة بعد الاتفاق النووي، معهد بروكينغز، 2016.].
ثانيًا، إعلان حل حزب العمال الكردستاني لا يُلغي عمق القضية الكردية في تركيا، والتي تتجاوز الاعتبارات الأمنية إلى عمق اجتماعي وتاريخي لم يُعالج بعد.
ثالثًا، التعويل على الولايات المتحدة كضامن استراتيجي غير مضمون، والتجربة الكردية في كركوك عام 2017 مثال بارز على تبدل السياسات الأميركية وفق المصالح[ بيتر غالبريث، الحماية الأميركية للأكراد.. بين الالتزام والمصالح المتغيرة، Foreign Affairs، العدد 4، 2022.].
رابعًا، التحليل لم يتناول بما يكفي التحديات الداخلية في الإقليم، من الانقسام السياسي إلى أزمة الحوكمة.
خامسًا، لم تُفرد مساحة كافية لمناقشة توظيف إسرائيل للورقة الكردية، رغم كثرة الإشارات الإسرائيلية في هذا الصدد[ عزمي بشارة، في المسألة القومية الكردية واستراتيجيات التفتيت الإسرائيلي، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2018.].
مستقبل الإقليم بين الواقعية والطموح
يظلّ مستقبل كردستان العراق مشروطًا بقدرته على إدارة التوازنات لا فقط مع بغداد، بل أيضًا مع الجيران الإقليميين، ومع الفاعلين الدوليين. يتطلب ذلك:
تعزيز الاقتصاد المحلي وتنويعه.
بناء موقف كردي موحّد في العلاقة مع المركز.
ترسيخ الحوكمة والمساءلة داخل مؤسسات الإقليم.
الحذر من الاستقطاب الإقليمي الذي قد يُوظّف الإقليم أداةً في صراعات أكبر منه.
زمن مفصلي وتحديات متراكبة
الإقليم اليوم أمام لحظة مفصلية، لا تتيح له البقاء على الهامش. فإن لم يُبادر إلى مراجعة موقعه، وموازنة تحالفاته، وإعادة تعريف أولوياته، فإنّه سيُستدرج إلى مربعات النفوذ المتضادة. والأكراد، الذين خبروا لعقود خذلان الجغرافيا، يعلمون أن النجاة لا تكون إلا بالوحدة، والبصيرة، والخيار الوطني الذكي.