
علاء الدين آل رشي
مدير المركز التعليمي لحقوق الإنسان
من أنطاليا إلى الشرق الجديد: بين سوريا المتجددة وإقليم كوردستان – فقه المصلحة وموازين المصالحة.

ليست السياسة عند العقلاء مغالبة على المصالح، ولا منافسة على الغنائم، بل هي فنّ تدبير المعاش العام، وتحقيق الصالح المشترك، واستبصار المستقبل بما يحفظ التوازن ويصون الكرامة.
وإذا انفصلت السياسة عن هذه المبادئ، صارت عبئاً على الشعوب، ومصدراً دائماً للفتن والنزاعات.
ولعل من أبرز ما تحتاجه منطقتنا في هذا المفصل من تاريخها هو اجتراح نموذج سياسي جديد، يتجاوز العقلية الصراعية، ويرتكز على التعاون والتكامل.
وهذا ما ينبغي أن نُسقطه على اللقاء الذي جمع بين الرئيس السيد أحمد الشرع، ورئيس إقليم كوردستان العراق السيد نيجيرفان بارزاني، في مدينة أنطاليا.
هذا اللقاء، جاء في لحظة حساسة إقليمياً ودولياً، لم يكن حركة بروتوكولية أو محاولة لملء الفراغ الدبلوماسي، بل خطوة ذات دلالات عميقة، تؤسس لجسر من الفهم والتعاون، وتفتح آفاقاً جديدة للعلاقات بين دمشق وأربيل، ليس على قاعدة المسايرة أو المجاملة، بل على أساس إدراك المصالح، واحترام الخصوصيات، والانطلاق من تجارب الماضي نحو رؤية أكثر نضجاً ومسؤولية.
لقد أنهكت الحرب سوريا، ومزّقت نسيجها الاجتماعي، وأضعفت مؤسساتها، وأدخلتها في متاهات التجاذب الإقليمي. واليوم، تبدو مؤشرات بداية مرحلة جديدة، تعيد فيها الدولة السورية ترتيب أولوياتها، وتستعيد شيئاً من استقلال قرارها، وتسعى لتجاوز الإقصاء والانغلاق، نحو صياغة هوية وطنية جامعة، تعترف بجميع مكوناتها دون تمييز أو محاباة.
ومن هذا المنطلق، فإن على إقليم كوردستان أن ينظر إلى سوريا الجديدة، لا بعين التوجس، بل كشريك محتمل في بناء فضاء مشترك من الاستقرار والتنمية. فالإقليم، الذي لطالما سعى إلى تنويع علاقاته، لن يجد أقرب ولا أنفع من سوريا بوابةً نحو المتوسط، ومعبراً نحو الأسواق العربية. والحدود الممتدة بين الحسكة والموصل، وبين دير الزور وسنجار، ليست مجرد خطوط جغرافية، بل صلات تاريخية واجتماعية يمكن استثمارها في مشاريع استراتيجية.
لقد أثبتت تجارب الإقليم، أن الانفتاح هو السبيل الأنجع لتجاوز الحصار الاقتصادي والضغوط السياسية. فكلما انفتحت آفاق التعاون مع الجوار، ازدهرت فرص النمو، وانخفضت التبعية، وتعززت قدرة الإقليم على المبادرة. وسوريا، بما تمتلكه من موقع جغرافي وموانئ وقدرات بشرية، تُمثل شرياناً طبيعياً لكوردستان نحو العمق العربي.
أما على صعيد الأمن، فإن الواقع يفرض شكلاً من أشكال التنسيق بين البيشمركة والقوى الأمنية السورية، خصوصاً في مواجهة خلايا التنظيمات المتطرفة. فالخطر مشترك، والتحديات متداخلة، ولا يمكن لأي طرف أن يتعامل معها بمفرده. وإنّ السعي إلى تحقيق الأمن المشترك ليس ترفاً سياسياً، بل ضرورة تفرضها الوقائع، وتتطلب تجاوز الحساسيات التقليدية.
وفي المقابل، فإن السوريين، وقد عانوا من الحرب والتمزق، يحتاجون إلى نماذج واقعية تُظهر إمكانية التعددية ضمن الوحدة. وتجربة إقليم كوردستان، رغم ما شابها من صعوبات، تقدّم مؤشراً عملياً على إمكانية بناء مؤسسات تمثيلية، وتحقيق قدر من التنمية في بيئة غير مستقرة. وليس المطلوب نسخ التجربة، وإنما الاستفادة منها بما يلائم السياق السوري، ويخدم المشروع الوطني الجامع.
وليس خافياً أن الشعب الكوردي في سوريا، الذي عاش فصولاً طويلة من الإنكار والتهميش، يتطلع اليوم إلى دولة تعترف به كمكوّن أصيل، وتمنحه حق الشراكة الكاملة، لا كمنةٍ مهدّدة، بل كعنصر إثراء للنسيج الوطني. ولعل أبرز ما يبعث على التفاؤل، أن القيادة السورية الجديدة تُعلن صراحة التزامها بإقامة دولة تتسع لجميع مكوناتها، وتُبنى على المواطنة لا الامتيازات.
وهذه ليست مجرد شعارات، بل رؤية يُفترض أن تُترجم إلى نصوص دستورية، ومؤسسات تمثيلية، وخطط تنموية تراعي الخصوصيات الثقافية، وتؤمن بالتنوع كقيمة مضافة لا عبئاً ينبغي إخفاؤه.
وفي البعد الاقتصادي، فإن آلاف السوريين المقيمين في مدن الإقليم، منذ سنوات الثورة، يشكلون جسراً بشرياً بين المنطقتين، ولديهم من المهارات والخبرات ما يؤهلهم ليكونوا عنصراً فاعلاً في أي مشروع للتكامل الاقتصادي. وقد أظهرت التجربة، أن وجودهم ساهم في التعليم والصحة والتجارة، ما يعني أن الاستثمار في هذه العلاقات هو استثمار في الاستقرار الإقليمي ذاته.
ومتى ما وُضعت هذه العلاقات في إطار قانوني واضح، وشراكات متكافئة، فإن التعاون السوري الكوردي يمكن أن يتحول إلى نواة لنموذج يحتذى في المنطقة، يقوم على احترام الإرادة الشعبية، وتكامل الموارد، وتحقيق المنفعة المتبادلة.
غير أن هذا كله لا يُمكن له أن يُثمر إذا لم يُبنَ على أساس من الثقة المتبادلة، والإرادة السياسية الصادقة.
فالتاريخ مثقل بالجراح، والذاكرة الجمعية لا تزال مشحونة بتجارب الفشل، ولكن اللحظة الراهنة تتيح فرصة جديدة لإعادة البناء، إذا ما توفرت العزيمة.
إن التراحم، بمفهومه السياسي والاجتماعي، ينبغي أن يكون أحد أعمدة هذه العلاقة. وليس المقصود بالتراحم هنا الشعور العاطفي المجرد، بل القدرة على تجاوز العقد، ومدّ اليد بعقل راشد، ونفس كبيرة، ترى في الجار سنداً لا تهديداً، وفي الشريك فرصة لا خصماً.
لقد آن الأوان أن يتحرر العقل السياسي في المشرق من ثقل الإرث الصراعي، وأن ننتقل من منطق المكابرة إلى منطق الحكمة. فقد بات واضحاً أن الاستبداد، حين يتجذر، لا يستثني أحداً، وأن العنف، حين يستفحل، لا يُبقي على السلم الأهلي. كما أن الغلو والتطرف حين ينتشر، يهدد الجميع دون تفريق.
ومن هنا، فإن كل خطوة في اتجاه المصالحة والحوار والتعاون، هي عمل نبيل ينبغي أن يُحتفى به، لا أن يُسفه أو يُختزل. بل إننا نكاد نجزم أن كثيراً من أزمات المنطقة ما كانت لتقع، لو طغى منطق التكامل على منطق التنازع.
إن ما بدأ في أنطاليا، ينبغي أن يُبنى عليه، لا بمجرد التصريحات، بل بخطوات عملية، واتفاقات مدروسة، وآليات تعاون متدرجة، تشمل الاقتصاد والأمن والثقافة والإدارة. وعلينا أن ندرك أن اللقاءات الناجحة لا تكفي إن لم تُترجم إلى سياسات عامة، ومؤسسات تنفيذية، وتنسيق دائم.
إن سوريا الجديدة، إذا ما أرادت أن تنهض، فلا بد أن تعترف أولاً أن استقرارها لن يكون إلا بمشاركة كل أبنائها، وأن أمنها لا ينفصل عن أمن جيرانها. كما أن إقليم كوردستان، إذا ما أراد أن يتحرر من منطق العزلة، فعليه أن يُعيد تموضعه في فضائه الطبيعي، العربي والشرقي، لا على قاعدة الذوبان، بل على أساس الاحترام المتبادل.
إننا أمام فرصة نادرة لتجاوز منطق الأحقاد، وبناء شرق جديد، تتلاقى فيه الهويات، لا لتتقاتل، بل لتبني معاً معادلة من التوازن، تُعيد إلى المشرق بعضاً من استقراره المفقود، وتُخرج شعوبه من حالة الانتظار القاتل.
ولعل أهم ما يجب أن يُقال في هذه اللحظة، أن العلاقة بين سوريا المتجددة وكوردستان العراق، ليست تفصيلاً عابراً في دفتر السياسة، بل هي حجر أساس في معادلة استقرار الشرق. فإذا أُحسن بناؤها، صارت نموذجاً يُحتذى، وإذا أُهملت، ضاعت فرصة تاريخية كان يمكن أن تُشكّل بداية عهد جديد.
شكرا للرئيسين وإلى مزيد من الانفتاح والتعاون المشترك