حلبجة... مرآة الألم الكوردي وامتحان الضمير الإنساني

حلبجة... مرآة الألم الكوردي وامتحان الضمير الإنساني
حلبجة... مرآة الألم الكوردي وامتحان الضمير الإنساني

في ذاكرة الأمم محطات لا تُنسى، لا لأن ما جرى فيها كان أقسى ما يمكن أن يُصاب به البشر فحسب، بل لأن الصمت الذي أحاط بها كان أكثر مضاضةً من الألم نفسه. وحلبجة، المدينة الكردية الواقعة في شمال العراق، لا تزال منذ السادس عشر من آذار لعام 1988 شاهدة على واحدة من أشد الجرائم فتكًا، لا بالإنسان فحسب، بل بالمعنى كله.
لم تكن حلبجة جبهة قتال، ولا معقلًا لمتمردين مسلحين، بل كانت مدينة ينام أهلها على أحلام البسطاء، ويستيقظون على رتابة الحياة اليومية. ولكنها فجأة، وبدون مقدمات تُبرّرها ضرورات الحرب أو منطق السياسة، تحوّلت إلى مسرح للموت الجماعي، حين أُغرقت بغاز الخردل والسيانيد وسواهما من الغازات القاتلة المحرّمة دوليًا وإنسانيًا.
لم يكن الضحايا مقاتلين، بل كانوا أطفالًا يتعلّمون المشي، ونساء يتهيأن لطهو الغداء، وشيوخًا توقفوا عن الحلم منذ زمن، وجدرانًا كانت تستر دفء العائلة، فتحوّلت كلها إلى مشاهدَ جامدة كأنها بُترت من مشهد الحياة. لم تُسمع أصوات استغاثة، لأن من استنشق الغازات لم يكن له متّسع للصراخ، بل فارق الحياة بصمتٍ رهيب، وكأن الهواء ذاته قد تحوّل إلى قاتل لا يُرى.
إنها مجزرة لم يكن فيها صوتٌ للرصاص، بل اختنق الهواء، وصار النفس خيانة للجسد. ولعل أبشع ما فيها، أن القتل تم عبر الصمت، وأن الألم لم يجد وقتًا ليُعبّر عن نفسه، وأن الجريمة نُفذت كما تُنفذ الأوامر العسكرية، بلا تردد، وبلا رحمة، وبلا شهود.
ولئن كان وصف المشهد مؤلمًا، فإن قراءة ما بعد المشهد أشد إيلامًا. ذلك أن المجزرة لم تُقابل بالإدانة العادلة، ولا بالمحاكمة المستحقة، بل بالصمت، وكأن الضحايا كانوا خارج الخريطة الأخلاقية للعالم. لم تهتز منابر، ولم تُعقد قمم، ولم تُخصّص جائزة واحدة لضحايا حلبجة الذين ماتوا دون أن يُسمع صوتهم، ودون أن تُرفع راية حقٍّ فوق قبورهم.
وإن من أخطر ما يُمكن أن يُقال عن مثل هذه الجرائم، أن تُدرج في خانة "الضرورات السياسية" أو تُبرَّر بمنطق الدولة والمصلحة. فإن الدولة التي تُبرر القتل الجماعي، لم تعد دولة، بل صارت آلة بلا روح، وسلطة بلا ميثاق.
لقد رأينا، كيف أن بعض الكتّاب والساسة، لا يزالون يُحاولون تجميل الجريمة بخطابات تبريرية مقيتة، تسرد علينا أولوية الأمن، وخطر الانفصال، وضرورة "الحزم". وما علم هؤلاء أن الأمن الذي يُبنى على المقابر، لن يكون إلا رُعبًا مقنّعًا، وأن الحزم الذي يقتل الأبرياء هو عين الضعف، لا قمة القوة.
وليس يليق بشعوبٍ تنشد العدل أن تقف متفرجة على حوادث مماثلة. فلو كانت هناك عدالة حقيقية، لكانت مجزرة حلبجة قد تحولت إلى عنوان دائم للرفض العالمي للإبادة، ولكانت القوانين الدولية قد استدعيت لا لحماية المصالح، بل لحماية الإنسان. إلا أن التجارب علمتنا أن القانون الدولي كثيرًا ما يخضع لميزان القوى، لا لميزان القيم.
أما الكرد، فكانوا - وما زالوا - جزءًا أصيلًا من نسيج هذه المنطقة، لهم لغتهم كما للعرب لغتهم، ولهم تاريخهم كما لبقية الشعوب تاريخ. وإن الجريمة التي ارتُكبت في حلبجة، لم تكن فقط جريمة ضد شعب، بل كانت جريمة ضد فكرة العيش المشترك، وضد إمكان بناء وطنٍ يحترم مكوناته، ويُحسن الإنصات لصوت التنوع فيه.
وليس من المبالغة أن نقول إن مأساة حلبجة ألقت بظلها الثقيل على الوعي الكردي، فأعادت تشكيل الذاكرة الجمعية، ورسخت الإحساس العميق بالخذلان من القريب والبعيد. ولذلك فإن استحضار الذكرى، لا يكون بتكرار تفاصيل الموت، بل بإعادة الاعتبار للحياة التي سُرقت من أهلها، وللحق الذي لم يُرد.
وهنا لا بد من وقفة مع اسم المدينة ذاته: "حلبجة". 
لقد أخبرني بعض الأصدقاء [ الروائي الأديب الإعلامي أحمد الزاويتي ] أن من التفسيرات المتداولة لهذا الاسم أنه يعني "حلب الصغرى"، باعتبار أن المقطع الأول يشير إلى مدينة حلب، والمقطع الثاني هو لاحقة للتصغير أو التخصيص المكاني. ولئن كان هذا التفسير ليس حاسمًا في الدراسات اللغوية، إلا أن رمزيته تحمل الكثير. فهي تُشير إلى الصلة العميقة بين الكرد وحواضر العرب، وإلى أن التداخل بين المكونات لم يكن عابرًا، بل كان جزءًا من هويةٍ جامعة، ومن تاريخٍ مُشترك.
فليس غريبًا أن تُحاكي مدينة كرديةٌ في اسمها مدينةً شامية كبرى، كما أنه ليس غريبًا أن يتصوف الكردي على الطريقة القادرية، أو أن يدرس في الأزهر، أو أن يهتف للقدس، أو أن يُستشهد في حلب. إن الجريمة التي تستهدف هذا الامتزاج، هي في الحقيقة جريمة ضد الشرق كلّه، وضد روحه الثقافية والإنسانية.
وإذا كنا نبحث عن أفق جديد للمنطقة، فإن البداية تكون من الاعتراف. الاعتراف بالمظلومية، وبالجرح، وبالحاجة إلى خطاب جديد يعيد للأخلاق موقعها في السياسة، ويُعيد للمواطنة معناها الحق. فالكردي لا يطلب أكثر من الكرامة، ولا أقل من العدالة، وحلبجة كانت اللحظة التي قيل له فيها: وجودك خطر، وصوتك غير مسموع.
إن ما جرى في حلبجة ينبغي ألا يُقرأ كصفحة من الماضي، بل كجرس إنذار دائم. فإذا لم نُدن الجريمة بوضوح، ولم نحاكم خطاب التبرير، ولم نُربِّ أبناءنا على أن الكرامة لا تُجزَّأ، فإننا نُمهّد الطريق لمجازر أخرى، قد تتغيّر فيها الأسماء، ولكن لن يتغيّر فيها المضمون.
لقد آن الأوان أن تُكرَّم حلبجة، لا فقط بإحياء ذكراها، بل بجعلها عنوانًا دائمًا للعدالة المفقودة. آن الأوان أن تُدرَّس هذه الحادثة في مناهج الأخلاق، لا كمأساة، بل كدرس في معنى الدولة حين تفقد روحها، وفي معنى الإنسان حين يتحوّل إلى رقم.
لقد أُبيدت حلبجة بالغاز، ولكن أخطر ما بُني بعد ذلك، هو جدار الصمت. وإن الكتابة عنها اليوم، ليست من باب الإحياء، بل من باب الشهادة، والشهادة واجب لا يسقط بالتقادم، ولا يُلغى بالخوف، ولا يُؤجَّل بحجّة السياسة.
لعلنا نفي بعضًا من الدين حين نُسمّي الأشياء بأسمائها، ونُعيد المعنى إلى مكانه، ونقول: 
ما جرى في حلبجة، لم يكن إلا جريمة مكتملة الأركان، لم يُحاسب فاعلها، ولم يُعالج أثرها بعد.
وما تزال الجبال هناك، تشهد... وما تزال الأرواح، تنتظر عدلًا يُنصفها، لا على الورق، بل في ضمير الإنسان الذي لا يموت.