
علاء الدين آل رشي
مدير المركز التعليمي لحقوق الإنسان
قراءة تحليلية علمية لتقرير التهديدات الاستخباراتية الأمريكية لعام 2025

يُعد تقرير التهديدات السنوي الصادر عن مكتب مدير الاستخبارات الوطنية الأمريكي وثيقة استراتيجية بالغة الأهمية، يعرض من خلالها مجتمع الاستخبارات الأمريكي رؤيته لأبرز التحديات والتهديدات العالمية التي تمس الأمن القومي الأمريكي. يتسم التقرير، الذي صدر في مارس 2025، بالشمولية والواقعية في رصد المخاطر المتوقعة للعام المقبل، كما يبرز التحولات الجيوسياسية، والتقنيات الجديدة، وتهديدات الفاعلين من الدول وغير الدول.
الإطار القانوني والمنهجي للتقرير
يستند التقرير إلى المادة 617 من قانون تفويض الاستخبارات للولايات المتحدة للسنة المالية 2021، ويعتمد منهجية دقيقة لجمع وتحليل المعلومات حتى تاريخ 18 مارس 2025، مع الحرص على الموضوعية والاستقلالية في تقديم البيانات والتحليلات. ويهدف إلى تزويد صناع القرار بمعلومات استخباراتية تساعدهم في حماية الأرواح والمصالح الأمريكية داخليًا وخارجيًا.
المحور الأول: التهديدات العابرة للحدود من غير الدول
يركز التقرير بداية على التهديدات غير التقليدية الصادرة عن الجهات الفاعلة من غير الدول مثل المنظمات الإجرامية العابرة للحدود والجماعات الإرهابية. ويلفت إلى الدور الحاسم لعصابات تهريب المخدرات، خاصة تلك القادمة من المكسيك وكولومبيا، في تهديد المجتمع الأمريكي من خلال الاتجار بالفنتانيل والمواد الأفيونية الاصطناعية، والتي تسببت في عشرات الآلاف من حالات الوفاة خلال عام 2024.
كذلك يرصد التقرير تصاعد تهديد الجماعات الإرهابية العابرة للحدود، مع بقاء تنظيم داعش-خراسان أكبر تهديد خارجي في آسيا الوسطى، وسعيه لتنفيذ هجمات ضد أهداف أمريكية وغربية.
المحور الثاني: الدول الفاعلة الدولية الرئيسية
يتوقف التقرير عند أربع دول تشكل تهديدات مباشرة للأمن القومي الأمريكي: الصين، روسيا، إيران، وكوريا الشمالية.
الصين: تُعتبر الخطر الاستراتيجي الأكبر، عبر مساعيها لفرض نفوذها الاقتصادي والعسكري عالميًا، وزيادة نشاطها السيبراني، وتحديث جيشها، مع التركيز الخاص على أزمة تايوان ومحاولات الهيمنة في بحري الصين الجنوبي والشرقي.
روسيا: رغم تعرضها لانتكاسات اقتصادية وعسكرية، تواصل تحدي الولايات المتحدة من خلال تحركاتها العسكرية، خاصة في أوكرانيا وأوروبا الشرقية، وحملات التأثير السيبراني والمعلوماتي.
إيران: تستمر في دعم الميليشيات بالشرق الأوسط وتطوير برنامجها النووي والصاروخي، إضافة إلى عمليات التجسس السيبراني.
كوريا الشمالية: تمثل تهديدًا حادًا بسبب استمرار تطويرها للأسلحة النووية وصواريخها الباليستية العابرة للقارات.
المحور الثالث: التهديدات السيبرانية
يحذر التقرير من ازدياد التهديدات السيبرانية على البنية التحتية الحيوية الأمريكية، سواء من خلال الهجمات المتعمدة أو حملات التجسس والاختراقات الإلكترونية.
وتبرز الصين كفاعل رئيسي في هذا المجال، إذ تتبنى استراتيجيات واسعة للوصول إلى البنية التحتية للاتصالات والطاقة الأمريكية استعدادًا لاحتمال نشوب صراع.
المحور الرابع: استخدام الأدوات الاقتصادية كوسيلة ضغط
يحلل التقرير لجوء بعض الدول، خصوصًا الصين، إلى أدوات الإكراه الاقتصادي للسيطرة على الأسواق العالمية، سواء عبر دعم صناعاتها المحلية أو استخدام سلاسل التوريد كسلاح جيوسياسي، كما هو الحال مع تجارة المعادن الاستراتيجية وأشباه الموصلات.
المحور الخامس: التقنيات المتقدمة كأسلحة جيوسياسية
يبرز التقرير تنافس القوى الكبرى على السيطرة على التقنيات المتقدمة، مثل الذكاء الاصطناعي، والفضاء السيبراني، والتكنولوجيا الحيوية، إذ ترى الصين هذه المجالات وسيلة لتعزيز نفوذها العالمي وتحدي التفوق الأمريكي.
المحور السادس: انتشار أسلحة الدمار الشامل والأمن البيولوجي
يشير التقرير إلى استمرار جهود الصين وروسيا وإيران في تطوير أو دعم قدرات متصلة بأسلحة الدمار الشامل. كما يسلط الضوء على ضعف الشفافية الصينية فيما يتعلق بأصول جائحة كوفيد-19، محذرًا من تداعيات هذا السلوك على الأمن البيولوجي العالمي.
خاتمة: بيئة أمنية أكثر تعقيدًا وخطورة
يرسم التقرير صورة بيئة أمنية دولية معقدة تتداخل فيها التهديدات العسكرية والسيبرانية والاقتصادية والإرهابية، مما يفرض على الولايات المتحدة تبني سياسات دفاعية واستباقية متعددة المستويات. كما يشدد على ضرورة التعاون الدولي، مع إبقاء الحذر من تنامي التحالفات بين خصوم أمريكا، خصوصًا بين الصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية.
ملاحظات
يتميز التقرير بتقديم تحليل متوازن وشامل دون تهويل.
يعكس التطورات الواقعية على الأرض بدلًا من الاكتفاء بالتصورات النظرية.
ينبه إلى أهمية مواكبة تسارع التغيرات في مجالات التكنولوجيا الحيوية والذكاء الاصطناعي.
كيفية الاستفادة من تقرير التهديدات الاستخباراتية الأمريكية 2025: قراءة موجهة نحو المنطقة العربية والكردية.
أولاً: أوجه الاستفادة من التقرير
1- بناء الوعي الاستراتيجي
يساعد التقرير في تطوير رؤية واقعية للتحديات المقبلة، عبر إبراز العوامل التي تعيد تشكيل موازين القوى الإقليمية والدولية. يمكن لصناع القرار في الدول العربية والكردية توظيف هذا التقرير لبناء سياسات استباقية قائمة على تقييم دقيق للتهديدات، بدلًا من الاكتفاء بردود الأفعال العاجلة.
2- تعزيز قدرات المواجهة السيبرانية
مع تزايد التهديدات السيبرانية العابرة للحدود، خاصة من الصين وروسيا وإيران، تبرز ضرورة تطوير بنية تحتية إلكترونية محمية في العالم العربي وكردستان، بما يشمل حماية القطاعات الحيوية مثل الطاقة، والاتصالات، والمياه.
3- صياغة استراتيجيات اقتصادية بديلة
في ظل استخدام سلاسل الإمداد كسلاح جيوسياسي (مثل التحكم بالمعادن الاستراتيجية)، تحتاج المنطقة إلى تنويع مصادرها الاقتصادية وتقليل الاعتماد على قوى خارجية قد تستغل الاقتصاد أداة ضغط.
4- تبني سياسات دفاع بيولوجي وصحي متقدمة
تجربة كوفيد-19 أظهرت أن الأمن البيولوجي لم يعد شأناً صحياً فحسب، بل هو ركيزة من ركائز الأمن القومي. على الدول العربية والمناطق الكردية العمل على تطوير أنظمة استجابة بيولوجية ورصد مبكر للأوبئة.
5- تحفيز التعاون العربي–الكردي
تشكل التحديات العالمية فرصة لإعادة صياغة العلاقات بين العرب والكرد على أسس التعاون الأمني والاقتصادي، بعيدًا عن النزاعات الهوياتية، لأن الخطر القادم يتجاوز الإطار القومي والمحلي.
ثانياً: أبرز التهديدات والتحديات الخاصة بالمنطقة والعلاقات العربية–الكردية
1- التهديد الإيراني
إيران، بحسب التقرير، تواصل توسيع نفوذها عبر دعم ميليشيات متعددة، بما في ذلك الميليشيات المنتشرة في العراق وسوريا.
هذا التهديد لا يستهدف دولة بعينها، بل يهدد المكونات المختلفة بما فيها العرب والكرد، إذ تسعى طهران إلى استخدام أدوات طائفية لتمزيق المجتمعات وفرض الهيمنة عبر جماعات محلية موالية لها.
2- الفراغات الأمنية
تؤدي مناطق النزاع، مثل شرق سوريا وشمال العراق، إلى خلق فراغات أمنية تستغلها التنظيمات الإرهابية (مثل داعش)، مما يجعل العرب والكرد معاً عرضة للتهديدات، ويبرز الحاجة إلى تعاون أمني مشترك بين المكونات.
3- التدخلات السيبرانية
هناك خطر حقيقي بأن تستخدم قوى دولية الفضاء السيبراني لخلق الفتن الطائفية والقومية عبر حملات التضليل الإعلامي بين المكونات، بما فيها العرب والكرد.
4- الضغط الاقتصادي عبر السيطرة على الموارد
الصراع على الموارد (النفط، المياه، المعادن) في مناطق مثل كركوك ودير الزور يشكل تهديداً حقيقياً لوحدة الصف الداخلي العربي–الكردي، إذا لم تُعالج قضايا تقاسم الثروات بشفافية وعدالة.
5- سباق التسلح الإقليمي
التطورات التقنية والعسكرية (مثل الطائرات المسيرة وأنظمة الدفاع الجوي) قد تغذي النزاعات المحلية إذا استمر غياب إطار سياسي جامع، مما يهدد بتحول أي خلاف بسيط إلى صراع مسلح بين المكونات.
ثالثاً: آفاق العلاقات بين العرب والكرد في ضوء هذه التهديدات
1- الحاجة إلى عقد اجتماعي جديد
تفرض التهديدات العالمية على العرب والكرد تجاوز الخلافات القومية التاريخية، والعمل معاً على صياغة نموذج للحكم التشاركي يضمن الحقوق والتمثيل السياسي العادل للجميع.
2- التركيز على الأمن الجماعي بدل الصراعات الثنائية
أمام مخاطر كبرى مثل الإرهاب والتهديد السيبراني والتدخلات الأجنبية، لا بد من إعادة تعريف الأولويات: فبدل التنافس الداخلي، يجب أن يكون التركيز على حماية الأرض والإنسان معاً.
3- مشاريع اقتصادية مشتركة
يمكن تطوير مشاريع استراتيجية بين العرب والكرد في مجالات الطاقة والزراعة والصناعة، لتحصين الاقتصاد المحلي ضد الضغوط الخارجية وجعل الصراع على الموارد أقل حدة.
4- التعاون في مجال الحوكمة الرقمية
بما أن الهجمات السيبرانية تهدد الهويات الوطنية، فإن إنشاء منظومات معلوماتية موحدة (أو على الأقل متوافقة) قد يرسخ الثقة المتبادلة، ويمنع استخدام الفضاء الرقمي كأداة لإثارة النعرات.
5- مواجهة حملات التضليل الخارجية
الاتفاق على ميثاق إعلامي مشترك بين المؤسسات الإعلامية العربية والكردية يمكن أن يحد من تأثير الأخبار الكاذبة والحملات الخارجية الساعية لتقسيم المكونات داخلياً.
يوضح تقرير التهديدات الاستخباراتية لعام 2025 أن العالم يتجه نحو تعقيدات غير مسبوقة، حيث تذوب الحدود بين التهديدات العسكرية، الاقتصادية، السيبرانية، والبيولوجية.
في هذا السياق، تصبح المنطقة العربية والكردية بحاجة ملحة إلى التفكير الاستراتيجي المشترك، لا باعتبارهما خصمين، بل باعتبارهما شريكين في مواجهة تحديات مصيرية تتجاوز الانقسامات التقليدية.
إن بناء شراكات أمنية، واقتصادية، وثقافية مستدامة بين العرب والكرد سيكون هو الحصن الحقيقي ضد الانهيار أمام رياح التهديدات العالمية القادمة.