
علاء الدين آل رشي
مدير المركز التعليمي لحقوق الإنسان
الإعلام بين التلقِّي الواعي وصناعة الفهم: كيف نقرأ الأحداث ونتعامل مع القضايا السياسية؟

الإعلام هو المرآة التي تعكس نبض المجتمعات، والنافذة التي تطل منها الأمم على ذاتها والعالم. إنه وسيلة الاتصال الجماهيري التي تنقل الخبر، وتشكل الرأي، وتؤثر في السلوك الفردي والجماعي.
تنبع أهمية الإعلام من كونه أداة بناء أو هدم؛ تنهض به الشعوب حين يكون صوتًا للحق ومنبرًا للوعي ومجسًّا لآلام الناس وآمالهم، كما يصبح أداة تزييف وتضليل حين يفقد رسالته.
ودوره في صياغة الوعي محوري وخطير؛ إذ لا يقتصر على نقل الوقائع، بل يتعداها إلى تفسير الأحداث، وتوجيه الانفعالات، وصناعة التصورات الكبرى عن الذات والآخر والعالم.
فالإعلام يبني إدراك الناس لما يجري حولهم، يرسم لهم خرائط الفهم، ويؤثر في مواقفهم وقراراتهم، سواء في السلم أو الحرب، في النهضة أو الانحدار.
لهذا كان الإعلام عبر العصور سلاحًا ذا حدين: إما أن يُسخَّر للحق والعدل وبناء الإنسان، أو يُستغل لفرض الهيمنة وترسيخ الظلم وتغييب العقول. وبين هذين الحدين تتحدد مسؤولية الإعلاميين، وتتجلى أهمية الوعي في حسن التعامل مع هذه القوة الهائلة.
أما السياسة، فهي كامنة في صميم الوعي الإنساني منذ أقدم تساؤلاته عن العدل والنظام والحكم الرشيد. ولدت السياسة من حلم الإنسان بحياة أفضل، وسعيه لبناء مدينة تحكمها القوانين العادلة ويقودها الحاكم الصالح.
فالسياسة في جوهرها، قبل أن تكون تنظيرًا أو نظمًا، تعبير عن التوق الإنساني إلى الكرامة وصدى البحث الأزلي عن النظام الحق.
وقد ضللنا فهم السياسة حين اختصرناها في نشاط سلطوي محوره الحاكم وسلطانه.
إن النظرة السليمة تعيد السياسة إلى أصلها: نشاط إنساني هدفه حفظ الكرامة ورعاية الحرية. فالعلاقة بين الحاكم والمحكوم ليست علاقة أمر وطاعة، بل تعبير عن حاجة الإنسان إلى تنظيم عادل لحياته المشتركة.
حين تنتفي هذه العلاقة، تنتفي السياسة، وتسقط الدولة، ويغدو علم السياسة بلا موضوع.
وفي هذا السياق، بيّن ابن خلدون في مقدمته أن مبدأ الرئاسة كامن في طبيعة الإنسان ذاته، وأن معيار التفاضل ليس في المال أو النسب أو القوة، بل في الكفاءة الأخلاقية والفكرية لتحمل عبء المسؤولية. فالرئاسة عنده أمانة لا امتيازًا، وهي للأقدر على الرعاية والعدل.
نعيش اليوم زمنًا تداخلت فيه الحقائق بالأوهام، والصدق بالأراجيف، حتى غدت كثير من المجتمعات عاجزة عن التمييز بين نور الحقيقة وظلمة الافتراء.
وهنا تتجلى أهمية التلقي الواعي للإعلام.
كان الإعلام قديمًا ناقلًا بسيطًا للخبر: مطر يهطل، قرار يُعلَن، حادثة تقع. أما اليوم، فقد أصبح الإعلام قوة تصنع العقول، وتعيد تشكيل القناعات، وتدير الصراعات.
لم يعد الإعلام يكتفي بنقل الواقع، بل يصنع واقعًا يتخيله الناس حقيقة.
وكم من حادثة واحدة تُعرض بوجهين متناقضين في قناتين مختلفتين! وكم من مظلوم يُصور ظالمًا أو العكس بحسب زاوية التغطية الإعلامية!
إنها صناعة للفهم، لا مجرد نقل للحدث.
قاعدة قرآنية في التعامل مع الأخبار: التبين
سبق القرآن الكريم الإعلام الحديث حين وضع قاعدة واضحة:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾
التبين هو التحقق والتثبت قبل التصديق أو التكذيب. إنه دعوة للعقل أن يتوقف قبل أن يندفع، وأن يتحرى قبل أن يحكم.
أدوات التلقي الواعي
هناك أربع أدوات أساسية ينبغي امتلاكها عند التعامل مع الإعلام:
1- التحقق من المصدر: من الذي نقل الخبر؟ ما تاريخه؟ وهل تؤكد مصادر أخرى الخبر ذاته؟
2- تحليل الصياغة: هل الخبر يُعرض وقائع مجردة، أم يستخدم عبارات مثيرة للعاطفة؟
3- البحث عن السياق: ما خلفيات الحدث؟ من الأطراف المتصارعة؟ وما مصالحهم؟
4- التقييم الموزون: لا تصدق لمجرد أن الخبر يوافق هواك، ولا تكذب لمجرد أنه يخالف ميولك.
بعض وسائل الإعلام لا تكتفي بعرض الأخبار بل تصنع الفتن.
كم من حرب اشتعلت بسبب خبر كاذب! وكم من مجتمع انقسم نتيجة تغذية مشاعر الكراهية والتحريض!
وقد حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:
«كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع» (رواه مسلم).
فكيف بمن يحدث بكل ما شاهد وقرأ دون تثبت وتبين؟
هناك مؤشرات تكشف الإعلام المضلل:
* الاعتماد على مصادر مجهولة.
* استخدام لغة مشاعر لا حقائق.
* نشر نصف الحقيقة وإخفاء نصفها الآخر.
* تكرار الأخبار الكاذبة حتى تبدو حقائق.
* تغييب الرأي الآخر أو تشويهه.
لا ينبغي أن نكون مرآة لما يقدمه الإعلام، بل يجب أن نصنع فهمنا بأنفسنا، مستنيرين بالعلم والتحقق والعدل.
القاعدة الذهبية هي: استمع كثيرًا، تحقق أكثر، واحكم قليلًا.
الأمة التي تتلقى الأخبار بعين ناقدة، وتعقلها بعقل حكيم، ثم تتحرك بميزان الشرع والعقل، أمة لا تُخدع ولا تُباع ولا تُشترى.
قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم، وأن يرزقنا بصيرة نافذة وعقلًا متزنًا.