من تمثيل الشارع إلى تمثيل بغداد؟.. أزمة دور المعارضة في كوردستان

من تمثيل الشارع إلى تمثيل بغداد؟.. أزمة دور المعارضة في كوردستان
من تمثيل الشارع إلى تمثيل بغداد؟.. أزمة دور المعارضة في كوردستان

في الأنظمة الديمقراطية، تحتل المعارضة موقعًا جوهريًا في البنية السياسية، لما تؤديه من دور في مراقبة السلطة، وتصويب السياسات، وتقديم بدائل محتملة. غير أن هذا الدور لا ينفصل عن البنية الدستورية للدولة، ولا يتجرد من السياق السيادي الذي تتحرك فيه المؤسسات، لا سيما في الدول المركّبة ذات الطابع الفدرالي، حيث تتعدد مستويات السلطة وتتشابك صلاحياتها بين المركز والوحدات المكونة. وفي الحالة العراقية، التي تتأسس على فيدرالية تعددية ذات مضمون قومي، يكتسب هذا التداخل طابعًا أكثر حساسية، لاسيما بالنسبة لإقليم كوردستان، الذي يُعد التعبير الدستوري الوحيد عن القومية الكوردية داخل الدولة العراقية.

إن المعارضة السياسية في إقليم كوردستان لا تواجه تحديات ناتجة عن تنافس حزبي أو اختلاف في البرامج فحسب، بل تصطدم بمحددات أكثر تعقيدًا، تتعلق بموقع الإقليم ضمن النظام السياسي العراقي، وبحدود التمثيل السياسي والشرعي في العلاقة مع الحكومة الاتحادية. وبالنظر إلى أن الدستور العراقي لعام 2005 أقر في مادته (117) بإقليم كوردستان ككيان اتحادي، ومنح في المادة (121) لحكومته سلطة حصرية في ما لا يدخل ضمن الصلاحيات الاتحادية، فإن أي تعامل مع بغداد حول قضايا تتعلق بهذه الصلاحيات لا يجوز أن يتم إلا عبر حكومة الإقليم، بوصفها الجهة الوحيدة المخولة بتمثيل الإقليم رسميًا.

ورغم وضوح هذا الإطار الدستوري، شهدت التجربة السياسية في السنوات الأخيرة تجاوزات واضحة من بعض الأطراف المعارضة التي خلطت بين الاختلاف السياسي الداخلي والموقف من الدولة الاتحادية. فقد شارك عدد من ممثلي المعارضة في مفاوضات أو لجان اتحادية دون العودة إلى حكومة الإقليم، وتماهوا في خطابهم مع سياسات مركزية تسعى إلى تقويض صلاحيات الإقليم الدستورية، وفرض رؤى أحادية على قضايا مثل الموازنة العامة، ملف النفط والغاز، وتمويل قوات البيشمركة. إن هذا النوع من السلوك لا يقع ضمن دائرة الرقابة أو النقد السياسي، بل يُعد إخلالًا بمبدأ التمثيل الدستوري، وتهديدًا مباشرًا لوحدة الموقف الكوردستاني، ويُضعف الموقع التفاوضي للإقليم أمام حكومة اتحادية تسعى، في أكثر من محطة، إلى تقليص صلاحياته وتقويض خصوصيته الإدارية والاقتصادية.

إن الانخراط في الموقف الاتحادي من دون التنسيق مع حكومة الإقليم، أو تجاوزها بحجة المعارضة، لا يمكن تبريره بمنطق الإصلاح أو محاربة الفساد، لأنه ينسف جوهر الفدرالية التوافقية، ويحول الخلاف الحزبي إلى أداة لضرب الكيان الإداري والسياسي للإقليم. فالمعارضة في السياق الفدرالي ليست فقط محاسبة الحكومة، بل أيضاً التزام بالمصلحة العامة للوحدة السياسية للإقليم داخل الدولة، والدفاع عن خصوصيته، وصيانة مكتسباته، لا سيما في ظل تحديات متصاعدة من قبل المركز.

الشعب الكوردي، الذي خبر تاريخًا طويلًا من التضحيات والنضال، لا يساوم على قضاياه القومية، وقد أظهر في أكثر من مناسبة أنه أكثر وعيًا من أن يُستدرج إلى تناقضات داخلية تمس جوهر المشروع الكوردستاني. هذا الشعب، الذي واجه الحصار والجوع والتجويع، لم يُبدّل موقفه من قضيته، ولن يمنح ثقته السياسية في صناديق الاقتراع لمن يُضعف صفه الوطني تحت شعارات المعارضة أو المكاسب البرلمانية. ومن هذا المنطلق، فإن التماهي مع سياسات المركز، أو تقديم أوراق اعتماد سياسية على حساب وحدة الصف الكوردي، لا يمثل معارضة رشيدة، بل انحرافًا عن السياق الدستوري والأخلاقي للعمل السياسي في الإقليم.

إن مبدأ الفصل بين السلطات، والحق في المعارضة، والرقابة التشريعية، كلها أدوات مشروعة، لكنها لا تمنح لأي طرف، مهما بلغ تمثيله، حق تجاوز الحكومة الإقليمية في التمثيل السياسي أمام بغداد. ومثلما لا يجوز لحكومة الإقليم أن تُقصي المعارضة، لا يجوز للمعارضة أن تُضعف شرعية الحكومة أمام المركز أو تسهم في تقويض موقعها الاتحادي. فالمسألة هنا ليست خلافًا على إدارة داخلية، بل على تموضع قومي داخل بنية الدولة. وكل تجاوز لهذه الحقيقة، لا يؤدي فقط إلى خلخلة الوضع السياسي، بل يمنح المركز أدوات لتفكيك البنية الفدرالية وضرب الخصوصية الدستورية للإقليم.

إن لحظة الاصطفاف السياسي ينبغي أن تُبنى على فهم عميق للواقع الدستوري، ولحجم التحديات التي تواجه إقليم كوردستان، والتي لم تعد تقنية أو مالية، بل أصبحت وجودية. وفي مثل هذه اللحظات، يُعاد فرز المواقف والقوى على أساس التزامها بالقضية، وليس خطابها السياسي العابر. والتاريخ، كما الناخب الكوردي، لن يغفر لمن جعل من الخلاف الحزبي جسراً لتقويض المشروع القومي الكوردي داخل الدولة الاتحادية.