تآكل المكاسب الدستورية لإقليم كوردستان: الأسباب والمعالجات

تآكل المكاسب الدستورية لإقليم كوردستان: الأسباب والمعالجات
تآكل المكاسب الدستورية لإقليم كوردستان: الأسباب والمعالجات

المقدمة:

اعتمد العراق دستورًا دائمًا عام 2005، في سياق سياسي واجتماعي مضطرب، أعقب مرحلة التحول من النظام المركزي الشمولي إلى نموذج يفترض أنه ديمقراطي اتحادي. وقد شكّل هذا الدستور لحظة تأسيسية لإعادة بناء الدولة على أساس التعددية والتوازن بين المركز والأقاليم، وكان لإقليم كوردستان، بوصفه كيانًا يتمتع بخصوصية تاريخية وسياسية، حضور واضح في هذا التحول من خلال تثبيت عدد من المكاسب والضمانات الدستورية التي عززت وضعه القانوني والإداري ضمن هيكل الدولة العراقية.

غير أنّ تطبيق هذه النصوص خلال العقدين الماضيين أفرز فجوة واسعة بين المبادئ الدستورية والتجربة العملية، تمثلت في تآكل متدرّج للمكاسب الدستورية التي يتمتع بها الإقليم، وتراجع فعلي في مستوى الضمانات الفيدرالية التي كفلها الدستور. تهدف هذه المقالة إلى تحليل طبيعة هذه الخسائر، وتشخيص العوامل البنيوية والسياسية والقانونية التي أدت إليها، وسبل معالجتها.

أولًا: المكاسب الدستورية لإقليم كوردستان وفق دستور 2005:

يكرّس دستور جمهورية العراق لعام 2005 عددًا من الحقوق والصلاحيات الحصرية والمشتركة التي تشكّل مجمل البنية الدستورية لوضع إقليم كوردستان، ويمكن إبراز أبرز هذه المكاسب على النحو الآتي:

1.              الاعتراف الدستوري بالإقليم ككيان اتحادي ضمن الدولة العراقية (المادة 117).

2.              الاختصاص التشريعي والتنفيذي الواسع في المسائل غير الحصرية للحكومة الاتحادية، مع أولوية قانون الإقليم في حال التعارض (المادتان 115 و121).

3.              الحق في تشكيل قوات أمن محلية (البيشمركة) تتبع حكومة الإقليم (المادة 121/خامسًا).

4.              تثبيت اللغة الكوردية كلغة رسمية إلى جانب العربية (المادة 4).

5.              الاعتراف بحقوق الإقليم في المشاركة بإدارة الموارد الطبيعية، لا سيما المستقبلية منها (المادة 112).

6.              تحديد آلية واضحة لحسم ملف المناطق المتنازع عليها وفق المادة 140.

7.              ضمان المشاركة في المؤسسات السيادية والتوازن في إدارة الدولة عبر مجلس الاتحاد (المادة 65).

ثانيًا: مظاهر تراجع المكاسب الدستورية في التطبيق: رغم وضوح النصوص الدستورية الخاصة بوضع الإقليم، فإن الواقع العملي يشير إلى جملة من الخروقات والتراجعات التي انعكست سلبًا على جوهر النظام الاتحادي. ومن أبرز تلك المظاهر:

1.              عدم تنفيذ المادة 140 من الدستور، الخاصة بمحافظة كركوك وغيرها من المناطق المتنازع عليها.

2.              غياب قانون ينظم العلاقة بين الحكومة الاتحادية والإقليم في قطاع النفط والغاز، وصدور أحكام قضائية ألغت قانون نفط وغاز كوردستان دون وجود بديل تشريعي اتحادي.

3.              تخفيض الحصة المالية للإقليم من الموازنة العامة من 17% إلى 12.67%، ثم تحويلها إلى "سلف مالية" غير مستقرة.

4.              عدم تشكيل مجلس الاتحاد (المادة 65)، ما حال دون تمثيل الأقاليم والمحافظات في صنع القرار التشريعي.

5.              غياب أقاليم اتحادية موازية لإقليم كوردستان، ما أدى إلى تحويل النظام الاتحادي إلى حالة استثنائية غير معممة.

6.              محاولات تقييد صلاحيات قوات البيشمركة وإخضاعها إداريًا وأمنيًا لسلطة المركز، خلافًا لما ينص عليه الدستور.

ثالثًا: العوامل المسببة لفقدان المكاسب الدستورية:

يعود التراجع التدريجي في المكاسب الدستورية لإقليم كوردستان إلى تداخل مجموعة من الأسباب البنيوية والسياسية والتشريعية، يمكن تصنيفها ضمن المحاور الآتية:

1.              الخلل المؤسسي في النظام السياسي الاتحادي: تمثّل ذلك في عدم تفعيل عدد من المؤسسات الدستورية الضامنة للفيدرالية، مثل مجلس الاتحاد، إضافة إلى استمرار تهميش مبادئ التوازن في توزيع الصلاحيات والموارد.

2.              غياب الإرادة السياسية لتنفيذ نصوص الدستور المتعلقة بالفيدرالية: أظهرت النخب السياسية الاتحادية ميلًا واضحًا لتفسير الدستور بشكل انتقائي، وتجاهلت مواد حاسمة كالمواد (65،  119، 140)، مما قاد إلى إضعاف البنية الدستورية التعددية.

3.              ضعف وحدة الصف السياسي الكوردي وتشتت المواقف التفاوضية:  بعد أن كانت الأحزاب الكوردية تعمل ضمن تحالف موحد خلال صياغة الدستور (2003–2005)، فقدت هذه الوحدة في السنوات التالية، مما أضعف من قدرتها التفاوضية، وفتح المجال أمام التعامل المجزأ مع الملف الكوردي.

4.              عدم كفاءة العديد من النواب الكورد في البرلمان الاتحادي، خصوصًا في المجال القانوني والسياسي: يعاني التمثيل البرلماني الكوردي في بغداد من ضعف على مستوى اللغة العربية والتخصص والخبرة القانونية، الأمر الذي انعكس في الأداء التشريعي والرقابي، وأدى إلى غياب المبادرات القانونية الفاعلة في الدفاع عن حقوق الإقليم، بل وأحيانًا الصمت أو التنازل في ملفات مصيرية.

5.              غياب جبهة وطنية داعمة للفيدرالية من خارج الإقليم: إذ لم تتشكل تحالفات سياسية واسعة تتبنى الفيدرالية بوصفها خيارًا وطنيًا، بل اقتصرت المطالبة بها على النخبة السياسية الكوردية، ما جعلها هدفًا للهجوم السياسي بدل أن تكون قاعدة للإصلاح الدستوري والإداري الشامل في العراق.

 

الخاتمة والمعالجات:

تُظهر التجربة العراقية ما بعد 2005 أن الفيدرالية لا تتحقق بمجرد التنصيص عليها في الدستور، بل تتطلب إرادة سياسية صادقة، وكفاءة تمثيلية فاعلة، وبنية مؤسسية متماسكة. إن فقدان إقليم كوردستان لعدد من مكاسبه الدستورية لا يُفهم فقط في سياق التغوّل المركزي في بغداد، بل أيضًا في ضوء التشتت الداخلي الكوردي، وضعف أداء نوابه في البرلمان الاتحادي، وغياب الاستراتيجية التفاوضية الموحدة. ولذلك، فإن استعادة تلك المكاسب تقتضي من جهة التفاوض الجاد مع الحكومة الاتحادية ضمن الأطر الدستورية، ومن جهة أخرى إعادة بناء الصف السياسي الكوردي على أسس التوافق الوطني، والكفاءة التمثيلية، والموقف الموحد الذي يعيد الاعتبار للفيدرالية بوصفها التزامًا دستوريًا، لا امتيازًا سياسيًا قابلًا للتفاوض أو التجاوز.