صبحي مندلاوي
كاتب كوردي
إرسال الرواتب.. هدنة في حرب التجويع السياسي
مرة أخرى تُرغم بغداد على خطوة طال انتظارها، فتُطلق سراح جزء من المستحقات الدستورية لإقليم كوردستان بعد سلسلة من الضغوط المركبة التي تنوعت بين الحصار المالي والإرباك القانوني والتصعيد العسكري غير المعلن ، لم يكن الأمر صدفة ولا مبادرة حسن نية، بل استراحة مؤقتة في مسلسل طويل عنوانه استهداف الإقليم سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا.
ما جرى لا يمكن قراءته كحل، بل هو هدنة مؤقتة في حرب التجويع السياسي التي تُستخدم فيها الرواتب كسلاح، والمؤسسات كأدوات، والقرارات كأوراق تفاوضية.
بدأت فصول الأزمة الأخيرة منذ أن أعلنت وزيرة المالية الاتحادية طيف سامي منتصف السنة المالية إيقاف تمويل رواتب موظفي إقليم كوردستان بذريعة استلام الإقليم لحصته من الموازنة العامة.
هذا الإعلان لم يكن سوى غطاء قانوني هش لقرار سياسي مبيّت هدفه إضعاف الإقليم من الداخل وكسر صموده المؤسسي.
واليوم، بعد إرسال رواتب الموظفين لشهر أيار عقب التزام حكومة الإقليم الكامل بتعهداتها، يُطرح سؤال مشروع: هل انتهت الأزمة؟ وهل هذا الاتفاق بداية استقرار مالي مستدام؟
من موقع المتابع والمحلل، وبالاستناد إلى ما عايشناه من تجارب مريرة، أؤكد أن ما جرى لا يمثل حلاً جذريًا، بل هو تثبيت مؤقت لتسوية مشروطة قد تنتهي في أول منعطف سياسي أو حسابات ميدانية جديدة ، الأزمة من الأساس مفتعلة والغرض منها ليس تصحيح إجراءات فنية بل كسر الإرادة السياسية للإقليم وتحويل لقمة عيش الموظف إلى وسيلة ضغط وابتزاز.
ورغم صرف رواتب شهر أيار، فإن استغلال هذه الأزمة سياسيًا لم يتوقف، فقد حاولت أطراف متعددة، من ضمنها دوائر قريبة من رئيس الحكومة الاتحادية نفسه، توظيف الأزمة كورقة انتخابية لتسجيل نقاط أمام ناخبي الوسط والجنوب على حساب الحقوق الدستورية لشعب كوردستان.
لكن ما غفل عنه هؤلاء هو أن هذا الأسلوب الهابط في إدارة الدولة قد خلق على الطرف الآخر تمسكًا أشد وأرسخ من قبل شعب الإقليم بقيادته السياسية التي لم تساوم ولم تتراجع رغم ثقل الضغوط.
ففي هذه الأشهر الثلاثة السوداء صمد شعب كوردستان بصبر نادر. لم تخرج مظاهرة واحدة تطالب بالتنازل عن الحقوق مقابل الراتب، بل تحولت الساحات إلى منصات وعي رُفعت فيها شعارات الكرامة والحقوق والسيادة. المعلم والموظف والطبيب والعامل وحتى الطالب، جميعهم كانوا جنودًا في معركة الصبر. لم تكن معركتهم مع الجوع بل مع الإهانة، وقد انتصروا.
هذا الشعب الأصيل الذي عرف معنى القهر منذ قرون، لم يكن ليُخدع بأساليب قطع الأرزاق ولا بحيل الربط بين الخبز والكرامة. وما أراده البعض من خلق نقمة داخلية على حكومة الإقليم، تحوّل إلى حالة تمسك شعبي بالقيادة الشرعية في كوردستان ورفض علني لسياسات بغداد الأحادية.
هناك حقيقة لا يمكن إنكارها، بل يجب أن تُكتب بأحرف من ذهب:
شعب كوردستان صمد ، لم ينكسر، لم يساوم، لم يبدّل بوصلته، بل وقف بكرامة في أبهى صور البطولة الشعبية.
هذا الشعب الذي حُمّل أعباء معارك لا ناقة له فيها، خرج منها أكثر وعيًا وأكثر صلابة وأكثر تمسكًا بحقه المشروع في الحياة الكريمة والكرامة السيادية والعدالة الاتحادية.
أثبت شعب كوردستان أنه أقوى من كل أساليب الإخضاع، وأن القيادة التي وقفت بشجاعة وكرامة لم ولن تُساوم على كوردستان لا مقابل رواتب ولا مقاعد ولا صفقات .