أحمد الجزيري الكوردي.. نجم الأدوار الحزينة وحاصد جوائز الدراما

لُقّب بأنه نجم الأدوار المركبة، وبخاصة الأب المخدوع في أبنائه، أو من عاش المعاناة في تربيتهم، وقد يكون لرائعته المعروفة مسلسل "الشهد والدموع" وفيلمه الشهير "أنا لا أكذب ولكني أتجمل" مع النجم الكبير أحمد زكي وآثار الحكيم، حيث قدّم دور الأب المكلوم في أبنائه، تأثيرًا كبيرًا على وصفه بمثل تلك الأوصاف، هو الفنان القدير أحمد الجزيري، أحد أهم الفنانين المعروفين بأصولهم الكردية، ومن ظلوا حتى رحيلهم يتمنون زيارة بلادهم والعودة للجذور.
الفنان أحمد الجزيري كما تصفه الفنانة القديرة عفاف شعيب هو واحد من أكثر الموهوبين في مجال الدراما العربية، بل وترجع له الفضل في أنها قدّمت أهم أدوارها في الدراما وهو شخصية "زينب" في مسلسل "الشهد والدموع"، الذي يصنف كأحد أهم مسلسلات الدراما وتعلق به الجمهور العربي من المحيط إلى الخليج.
تقول عفاف شعيب: "كنت في اليونان واتصل بي الفنان أحمد الجزيري ليخبرني بأن هناك دورًا مهمًا جدًا سيكون نقلة في مشوارك ... وقد كان أن تحوّلت شخصية "زينب" ووالدها أحمد الجزيري في "الشهد والدموع" إلى أيقونة"، ولذلك يرجع له الفضل في هذا الترشيح.
وُلد أحمد الجزيري في مدينة جزرة، الواقعة ضمن إقليم بوتان الكردي جنوب شرقي تركيا، وهي منطقة ذات غالبية كردية عريقة، وتُعدّ من الحواضر الثقافية الكردية المعروفة منذ العهد العثماني.
عائلته تنتمي إلى أصول كردية خالصة من جهة الأب، وقد احتفظ بلقبه "الجزيري" نسبة إلى مدينة جزيرة ابن عمر، وهي مسقط رأس كبار أعلام الثقافة الكردية مثل الشاعر ملا أحمد الجزيري.
تحكي عنه عفاف شعيب فتقول بأنه فنان مصري عربي خلوق جاء إلى مصر وهو طفل مع اشتعال الحرب العالمية الأولى، حيث اضطر الجزيري، وعمره الثانية عشرة إلى ترك مسقط رأسه بسبب الأوضاع السياسية والاضطهاد، وهو ما أدى إلى تشتت أفراد عائلته بين عدة دول: حيث استقر بعضهم في زاخو شمال العراق، بينما لجأ هو إلى مصر، التي أصبحت وطنه الثاني والدائم.
في القاهرة، كبر أحمد الجزيري وسط بيئة شعبية متواضعة، وشق طريقه من الصفر. التحق بالمدرسة وتعلم اللغة العربية بطلاقة، ثم التحق بمعهد التمثيل وتخرج في دفعته الأولى عام 1949، ليبدأ بعدها رحلته الطويلة في عالم الفن، حاملًا في داخله آثار الرحيل والشتات، وانحيازه الدائم للمهمشين والبسطاء.
سكة السلامة نقطة التحول
في مسيرة الجزيري علامات بارزة جدًا، إذ يعد من عمالقة المسرح، فمن بين الـ90 عملًا التي قدمها، تبرز علامات وبخاصة في مجال المسرح، علامات سُجلت في التاريخ مثل مسرحية "سكة السلامة" التي كتبها سعد الدين وهبة وأخرجها سعيد أبو بكر، وقدم الجزيري دورًا عبقريًا في بساطته، من خلال شخصية "الموظف البسيط" الذي يستقل الأوتوبيس العائد من "أسوان إلى القاهرة"، في رحلة تتحول إلى ما يشبه الملحمة الوجودية على الطريق الصحراوي.
لم يكن دوره كبيرًا من حيث عدد الجمل، لكنه كان من أكثر الشخصيات التي أثارت تعاطف المشاهد، بعينيه المنكسرتين وصوته المتردد، وهو ينقل شكواه من الواقع، دون أن يطلق شعارات، بل يكشفها بتنهيدة، أو بجملة مثل: "يعني أنا أعمل إيه؟ أروح لمين؟"
لقد جسد الجزيري في هذا العمل ما يمكن أن نسميه "ضمير الشريحة المطحونة"، وجعل من شخصيته مثالًا للموظف الكادح الذي لا يملك إلا الانتظار… لا شيء غير الانتظار.
جعفر الأب في الشهد والدموع
لا يمر عام دون أن تُعرض رائعته "الشهد والدموع" مرات عدة على الفضائيات العربية، ومع عرضها يتذكر الجمهور شخصية الأب جعفر، الذي عبّر برعايته لأبنائه عن الحب الشديد للأسرة، وبخاصة الابنة "زينب" عفاف شعيب، وهي من روائع ما كتب أسامة أنور عكاشة والمخرج إسماعيل عبد الحافظ، فقد كان تجسيده لشخصية "الحاج جعفر" أحد أبلغ الأدوار في حياته المهنية، والذي خلد اسمه في ذاكرة التلفزيون العربي.
وقد نال الجزيري عن هذا الدور جائزة أفضل ممثل مصري عام 1984، في سابقة أثارت دهشة النقاد، لكنها أسعدت الجمهور الذي تعاطف معه إلى حد البكاء في مشاهد موته، التي أداها قبل أن يرحل فعليًا عن الدنيا بفترة قصيرة.
موظف المالية
كثيرون لا يعرفون أنه بدأ حياته موظفًا في وزارة المالية المصرية، ولكنه احترف التمثيل بعد تخرجه من معهد التمثيل عام 1949، ومن زملاء دفعته بمعهد التمثيل الفنانون: عبد المنعم إبراهيم، صلاح سرحان، عبد المنعم مدبولي، ناهد سمير، وعدلي كاسب.
وفي رأي النقاد، فإن هذا الممثل كان يوظف كل مفردات جسده لتقديم الشخصية، حتى أنه يتعايش معها بطريقة تشعر المشاهد أنه هو ذلك الإنسان المقهور.
وقد جسد هذه النوعية في فيلم "أنا لا أكذب ولكني أتجمل"، رائعة نجيب محفوظ، في دور "صالح التربي" البائس، والد أحمد زكي، والذي حصل على جائزة أحسن ممثل عام 1984 عن دوره في هذا الفيلم، ودوره الكوميدي الظريف "العِدل أحمد العِدل" في مسلسل "عيلة الدوغري" عن مسرحية نعمان عاشور، ومن إخراج يوسف مرزوق.
لم ينافسه أحد في الأدوار التي تتطلب حسًا إنسانيًا، وبخاصة في الكوميديا السوداء، التي جسدها في مسرحية "المحروسة"، حيث لعب الجزيري شخصية عمدة أحمق بعث برقية تهنئة للملك فاروق على الأوبرج حيث يسهر الملك.
وفي مسرحية "القضية" التي كتبها لطفي الخولي، كان يتساءل: "أفتح الشباك ولا أقفله؟". وشارك كممثل في أفلام هامة مثل "درب المهابيل"، "المتمردون"، "البوسطجي"، "جفت الأمطار"، و"الحرمان". وله دور كوميدي رائع في فيلم "الحياة حلوة" مع حلمي حليم، في دور عمدة يريد حجرة لا شرقية ولا غربية في لوكاندة المندرة، ويبحث عن القبلة، بينما يعتقد عبد المنعم إبراهيم أنه يبحث عن "الإبرة".
قام الجزيري كذلك بأداء دور حارس العوامة في فيلم "ثرثرة على النيل" من إخراج حسين كمال، وحاول أيضًا أن يقدم أدوارًا شريرة كما في "نحن لا نزرع الشوك"، لكن ظلت طبيعته الإنسانية هي الغالبة.
برغم أنه جاء من بلاده صغيرًا، إلا أنه كان عاشقًا للفن، وحتى في فترة عمله بالمالية، كان يزور المسارح والتحق بمعهد التمثيل.
الفنان القدير الراحل أحمد الجزيري بدأ أولى خطواته في فترة الخمسينيات، عندما قدم أول دور له في فيلم "المليونير"، الذي عُرض عام 1950، ثم شارك سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة وقدم دورًا في فيلم "لك يوم يا ظالم"، الذي عُرض عام 1951.
أُعجب النجم أحمد زكي بطريقته في التمثيل، فكان يراه موهبة لا تتكرر، إذ تألق معه في دور صالح التربي البائس الفقير مجسدًا دور والده، في فيلم "أنا لا أكذب ولكني أتجمل"، وزوج مبروكة التي تعمل خادمة عند رجل الأعمال الثري، والد زميل ابنهم إبراهيم في الجامعة، والذي ينفر من أصل إبراهيم الفقير. كما قدّم الدور الكوميدي الظريف "العدل أحمد العدل" في مسلسل "عيلة الدوغري"، عن رائعة نعمان عاشور ومن إخراج يوسف مرزوق.
توفي الجزيري قبل أن يُكمل مسلسل "الشهد والدموع" عام 1983، فأكمل دوره في الجزء الثاني الفنان عبد المنعم إبراهيم.



