فى ذكرى رحيل جمال عبد الناصر.. كيف دعم القضية الكوردية ولقاءه الزعيم مصطفى البارزاني
في كل عام ومع ذكرى رحيل الزعيم جمال عبد الناصر التى تحل فى 28 سبتمبر 1970 ، تعود إلى الأذهان محطات كثيرة من تاريخه السياسي المليء بالمواقف القومية والإنسانية. غير أن لقاءه بالزعيم الكوردي الملا مصطفى البارزاني يوم 5 اكتوبر 1958 يظل من أبرز تلك المحطات وأكثرها رمزية، ليس فقط لأنه جمع بين قائدين بارزين في الشرق الأوسط، بل لأنه ألقى الضوء على طبيعة العلاقة الممكنة بين المشروع القومي العربي والحركة القومية الكوردية في منتصف القرن العشرين.
واليوم، وبعد مرور أكثر من نصف قرن على ذلك اللقاء، ما زال الكورد يذكرون أن زعيمًا في القاهرة استمع إليهم في زمن صعب وقال بوضوح: أنتم شعب له حق. ورغم أن الظروف السياسية لم تثمر عن حلول جذرية، إلا أن هذا الموقف وحده يكفي ليخلّد اللقاء بين جمال عبد الناصر والملا مصطفى البارزاني كعلامة مضيئة في تاريخ العرب والكورد معًا، ودليل على أن الاعتراف المتبادل هو حجر الأساس لأي مشروع للتعايش في منطقتنا المضطربة.
لقد جاء هذا اللقاء في لحظة تاريخية بالغة التعقيد. كان العراق يعيش اضطرابات سياسية متسارعة بعد سقوط النظام الملكي عام 1958، بينما عاد البارزاني الطويل الاتحاد السوفيتي ليقود حركة تطالب بحقوق الكورد القومية. أما القاهرة فكانت في ذروة الحضور الناصري، حيث تحوّل عبد الناصر إلى رمز للتحرر العربي ومركز ثقل سياسي في المنطقة. من هنا حمل اللقاء بين الرجلين أبعادًا تتجاوز حدود المجاملة السياسية إلى اختبار واقعي لإمكانية التلاقي بين القوميات في المنطقة.
رؤية البارزاني التي اكدت عمق العلاقات
دخل الملا مصطفى البارزاني إلى قاعة اللقاء مدركًا أنه يجلس أمام زعيم عربي تحوّل إلى أيقونة للكرامة الوطنية. تحدث بصراحة ووضوح عن معاناة الكورد، وأوضح أن قضيتهم ليست نزعة انفصالية كما يُصوَّر لها، بل هي سعي إلى حياة كريمة داخل عراق موحد، مع حكم ذاتي يحفظ الهوية والثقافة الكوردية ويمنح الكورد الحق في المشاركة السياسية. أكد البارزاني أن الكورد جزء أصيل من تاريخ المنطقة، وأنهم يتطلعون إلى أن يكون عبد الناصر صوتًا للعدل يحمل قضيتهم إلى وجدان الأمة العربية.
موقف عبد الناصرفى دعم القضية
تؤكد الوثائق المنشورة بالصحف المصرية ومنها الأهرام والتي نشرت خبرا فى صدر صفحاتها عن زيارة الوفد برئاسة الملا مصطفى البارزاني ، أن عبد الناصركان مؤمنا بقضية الكرد حتى قبل مجىء البارزاني ، وانه أستمع بإمعان إلى الوفد.
وقال عبد الناصر إن الشعب الكوردي صاحب حضارة قديمة لا يمكن إنكارها، وإن الحل العسكري لا يمكن أن ينهي القضية الكوردية. شدّد على أن الحل السياسي وحده هو الكفيل بضمان حقوق الكورد وفي الوقت نفسه الحفاظ على وحدة العراق. وأضاف أن القومية العربية لا ينبغي أن تكون على حساب القومية الكوردية، بل يجب أن تتجاور القوميات في إطار وطني جامع.
كما أكد عبد الناصر أن القاهرة ليست بعيدة عن دعم الحقوق المشروعة للكورد، طالما أنها لا تفتح الباب أمام التدخلات الأجنبية ولا تمس وحدة العراق. كان موقفه إذن موقفًا مبدئيًا يقوم على التوازن بين الاعتراف بحقوق الأقليات وبين حماية كيان الدولة الوطنية.
أثر اللقاء على الطرفين
خرج البارزاني من اللقاء وهو يقول إن عبد الناصر مختلف عن كثير من القادة العرب. شعر أنه يتحدث إلى رجل يسمع بصدق ويفهم معنى الكرامة الكوردية. في أحاديثه اللاحقة وصف عبد الناصر بأنه صديق للكورد، حتى وإن لم يقدم لهم السلاح أو المال، لأنه منحهم ما هو أعمق من الدعم المادي: الاعتراف بوجودهم، والتأييد العلني لحقوقهم القومية داخل الدولة العراقية.
أما عبد الناصر فقد كان يصف البارزاني أمام مقربيه بأنه قائد لا يطلب المستحيل، بل يطالب بحقوق مشروعة لشعبه، وأنه رجل حكيم يعرف كيف يحافظ على قضيته دون أن يحولها إلى ورقة في يد القوى الأجنبية. كان يؤكد دائمًا أن أي نظام عراقي لا يعترف بالكورد لن ينعم بالاستقرار، وأن التعايش مع الأكراد ضرورة لا خيار.
لم يخرج لقاء القاهرة بوثيقة مكتوبة أو اتفاق رسمي، لكنه ترك أثرًا عميقًا في مسار العلاقات العربية الكوردية. فقد شعر الأكراد أن صوتهم وصل إلى أهم عاصمة عربية في ذلك الوقت، وأن زعيم الأمة العربية يعترف بهم وبحقوقهم. وفي المقابل أدرك العرب أن الأكراد ليسوا خصومًا بل شركاء محتملين في بناء مستقبل المنطقة.
هذا اللقاء لم يكن مجرد محطة عابرة في العلاقات بين شخصين، بل تحوّل إلى علامة فارقة في تاريخ العلاقة بين العرب والكورد. فقد أسس لمبدأ أن القوميات يمكن أن تتعايش وتتعاون، وأن البحث عن حلول سياسية عادلة أفضل بكثير من اللجوء إلى الصراع المسلح.
ماذا تقول الوثائق؟
تشير المصادر التاريخية المتاحة إلى أن زيارة البارزاني للقاهرة كانت زيارة واحدة رئيسية عام 1963 والتقى فيها عبد الناصر مع وفد كوردي كبير. لا توجد وثائق مؤكدة عن زيارة ثانية رسمية للبارزاني إلى مصر خلال حياة عبد الناصر، وإن كانت بعض المذكرات الكوردية تذكر استمرار القنوات السياسية والدبلوماسية غير العلنية عبر مبعوثين ورسائل.
الصحافة المصرية وقتها نقلت عن عبد الناصر إقراره بالحقوق المشروعة للكورد. كما وردت إشارات في مذكرات محمد حسنين هيكل و"وثائق القاهرة" إلى أن القيادة المصرية تابعت القضية الكوردية باهتمام. أما الأرشيفات الدبلوماسية الأميركية فوثّقت طلبات وساطة ورسائل من البارزاني، بما يعكس مكانة القاهرة كوسيط محتمل.
مصر والأكراد تحالفات ممتدة
وفى دراسة مطولة أكد أ.د. محمد محمود محمود حمد الدوداني، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر كلية الآداب- جامعة دمياط أن العلاقة بين مصر والكورد لم تكن فقط منذ مساندة الزعيم جمال عبد الناصر وتأكيده على حقوق الكورد ولقاءه الزعيم مصطفى البارزاني ، أو حتى وليدة ثورة يوليو، بل تمتد جذورها إلى قرون طويلة، ربطتها عوامل الجوار الجغرافي والديني والنضال المشترك ضد الاستعمار. فقد عرف التاريخ المصري شخصيات كوردية بارزة منذ العصر الفاطمي مثل أحمد بن الضحاك وعلي بن السالار، بينما بلغ الحضور الكوردي ذروته مع صلاح الدين الأيوبي الذي أسس حكمًا استمر قرابة قرن، وأعاد مصر إلى المذهب السني وقاد معركة حطين. ومنذ ذلك الحين توافدت أسر كوردية إلى مصر، وشاركت في جيشها ومعاركها الكبرى مثل عين جالوت، كما استقرت في قرى تحمل أسماءها حتى اليوم.
على الصعيد الثقافي، كان للكورد حضور لافت في الأزهر الشريف حيث خصص لهم رواق خاص، وأسهموا في الحياة الفكرية والفنية الحديثة بمشاركة شخصيات مثل محمد عبده، العقاد، أحمد شوقي، الشيخ عبدالباسط عبدالصمد، المخرج أحمد بدرخان، وابنته الفنانة شريهان. كما شهدت مصر إصدار أول صحيفة كوردية "كردستان" سنة 1889، وأول مطبعة كوردية.
مع ثورة يوليو 1952، توثقت الصلة السياسية بين مصر والحركة الكوردية التي وجدت في جمال عبد الناصر قائدًا معاديًا للاستعمار والأنظمة الملكية. أيد الحزب الديمقراطي الكوردستاني والشيوعي الكوردي الثورة المصرية باعتبارها فاتحة لتغيير شامل في المنطقة. وبلغ الدعم ذروته خلال أزمة حلف بغداد (1955)، حيث شارك الكورد مصر في معارضته وخرجوا في تظاهرات صاخبة ضد نوري السعيد، رافعين شعارات إسقاط الحلف.
وعند العدوان الثلاثي عام 1956، أعلن مصطفى البارزاني من منفاه السوفيتي استعداده للقتال إلى جانب مصر، فيما شهدت مدن كوردستان العراق مظاهرات ضخمة مؤيدة لعبد الناصر. وقد ساهم هذا الموقف في تعزيز روابط القاهرة مع الكورد، فأنشأ عبد الناصر إذاعة كوردية من القاهرة عام 1957 لنشر أفكار الثورة، توازت مع إذاعة "صوت العرب"، مما أثار قلق تركيا وإيران اللتين اعتبرتا ذلك لعبًا بـ"الورقة الكوردية".
رغم التباينات، بقيت مصر بالنسبة للكورد مركزًا للحرية والثقافة ومصدر إلهام في صراعهم من أجل المساواة. ومن ثم فإن العلاقة المصرية الكردية تجسد تداخلاً تاريخيًا عميقًا امتد من ميادين المعارك إلى فضاء الثقافة والسياسة، وجعل من القاهرة رافدًا مهمًا للحركة الكوردية عبر العصور.