يكرمها مهرجان البحرين السينمائي.. منى واصف.. سيدة الدراما العربية: أحمل الصفات الكردية في دمي

تقديرًا لدورها ومسيرتها الطويلة، يكرم مهرجان البحرين السينمائي النجمة ذات الجذور الكردية منى واصف، واسمها الحقيقي بالكردي "جالميران"، إلى جانب المخرجين البحرينيين علي عباس ومجيد شمس، ضمن فعاليات الدورة الخامسة من المهرجان، المقرر انعقادها في الفترة من 30 أكتوبر إلى 4 نوفمبر 2025، تحت شعار "أفلام قصيرة... قصص عظيمة".
تُعدّ منى واصف اليوم واحدة من أعظم نجمات الفن العربي وأكثرهن تأثيرًا في الوجدان الجمعي، إذ جمعت بين الأصالة والتجديد، بين الموهبة الفطرية والثقافة الواسعة، وبين التاريخ الفني الطويل والحضور العصري المتجدد. إنها مثال للفنانة التي حملت رسالة الفن كقيمة إنسانية وجمالية، وظلت مخلصة لها حتى اليوم، لتبقى “سيدة الفن السوري” وصوت دمشق العريق في الذاكرة العربية.

"جالميران"الكوردية
تقول منى واصف: كنت أحب الفن منذ طفولتي، وعملي به جاء من خلال إعلان في الصحف عن حاجة أحد العروض المسرحية بالمسرح العسكري إلى وجوه تشارك في الاستعراضات، ولكن بعد البروفات رُشحت لمسرحية "العطر الأخضر". بدأت في الستينيات، لكن شهرتي كانت في السبعينيات، وعندما قابلت مصطفى العقاد قال لي: "لماذا أنتِ شقراء؟"، ثم منحني ألبوم صور به كل الجنسيات، وطلب أن يضع صورتي معه، وأعطاني السيناريو وقال: "اقرئي"، لم أحب طريقته، وكان معي المخرج هاني الروماني، ثم اصطحبوه إلى المسرح وشاهدني، وعندها تغيرت نظرته لي، وقال: "أنا سأضع صورتك في قلبي، وليس وسط الألبوم"، ومنها أسند إليّ دوري في فيلم "الرسالة".
وعن جذورها الكردية تقول: "اسمي بالكردي جالميران، ووالدي اسمه مصطفى واصف، وهو مركب، وتفسير الاسم جيل 40 أي أميرة الفارس، وما زال اسمي في جواز السفر (جالميران)، لأنني أعتز بكرديتي".

رأي نقدي
المخرج السوري والناقد السينمائي نضال قوشحة يراها حالة فنية متفردة ويقول عنها: "هي مكون متعدد الجذور لكنها تحمل قلبًا عربيًا مؤمنًا بالسلام النفسي، فقد وُلدت الفنانة الكبيرة منى واصف عام 1942 في مدينة دمشق، في بيت يجمع بين ثقافتين مختلفتين؛ فوالدها كردي الأصل، ووالدتها من عائلة شامية عريقة.
في هذا التنوع الغني نشأت الطفلة التي أصبحت لاحقًا واحدة من أعمدة الفن العربي، وقد غرست فيها بيئتها الأولى قيم التسامح والانفتاح والوعي بتعدد الهويات.
بعد وفاة والدها، انتقلت منى إلى كنف والدتها التي تزوجت لاحقًا من رجل آخر، فعاشت في أسرة جديدة، لكنها ظلت مرتبطة بجذورها الأولى، حاملة معها ملامح من البيئة الكردية الأصيلة التي كانت حاضرة بقوة في دمشق اجتماعًا وثقافةً وفكرًا. ومن هذا المزيج وُلدت شخصيتها المتفردة التي تجمع بين الحزم والعاطفة، وبين العمق الإنساني والذكاء الفني. بدأت منى واصف حياتها المهنية في عالم الأزياء، حيث عملت عارضة في سن مبكرة، ولفتت الأنظار بجمالها ووقارها وحضورها اللافت. هناك التقت بالمخرج المسرحي محمد شاهين، الذي كان حينها ضابطًا في الجيش السوري ومشرفًا على المسرح العسكري. نشأت بينهما علاقة إنسانية تحولت إلى حب وزواج، وأنجبا ابنهما الوحيد عمار شاهين، الذي يقيم اليوم في الولايات المتحدة الأمريكية.
رافقت منى زوجها في عدد من العروض المسرحية الجادة التي شكلت ملامح الحركة المسرحية في سوريا خلال ستينيات القرن العشرين، ثم انتقلت معه إلى العمل في الدراما التلفزيونية بعد تقاعده من الجيش.
ومع مرور الوقت استطاعت منى واصف أن تثبت نفسها كإحدى أهم الممثلات في الدراما السورية والعربية، بفضل صدق أدائها وقدرتها على تجسيد الشخصيات النسائية المركبة بواقعية وعمق. في لقاء جمعها قبل أعوام قليلة بطلبة المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق قالت منى واصف أمام قاعة غصت بالشباب: "لم يُسكرني نجاح، ولم يُخِفني فشل". عبارة قصيرة لكنها تختصر فلسفة حياتها، فهي ترى أن النجاح الحقيقي لا يُقاس بالشهرة، بل بالثبات على المبدأ، وأن الفشل ليس نهاية الطريق، بل تجربة يتعلم منها الإنسان. ومن خلال هذه الرؤية المتوازنة استطاعت منى واصف أن تحافظ على مكانتها لعقود طويلة دون أن تتأثر بزمن أو موجة.
يطلق عليها كثير من الفنانين السوريين، خاصة من الأجيال الشابة، لقب "أمنا منى واصف"، وهو لقب نابع من المحبة والتقدير أكثر منه من المهنة. فهي بالنسبة لهم ليست مجرد ممثلة مخضرمة، بل رمز للثبات والكرامة والتجربة الفنية الأصيلة. تُعرف منى بانضباطها واحترامها للمهنة، وبقدرتها على تقديم شخصيات نسائية قوية دون أن تفقد أنوثتها أو إنسانيتها، من "هند بنت عتبة" في فيلم "الرسالة" إلى "نازك" في مسلسل "الفصول الأربعة"، و"صبرية" في مسلسل "أصابع الزمن"، وغيرها من الشخصيات التي صارت جزءًا من ذاكرة الدراما العربية.

أعتز بجذوري الكوردية
لا تخفي منى واصف فخرها بأصلها الكردي، بل تعتبره جزءًا أساسيًا من تكوينها الفني والإنساني. تقول: "أنا سورية من أصل كردي، وهذا جزء من هويتي لا أتنكر له. الأكراد شعب محب للحياة، شديد الإخلاص للأرض والعائلة، وأنا أحمل هذه الصفات في دمي. ربما ساعدتني جذوري الكردية على أن أكون صلبة وقادرة على المواجهة، بينما منحني انتمائي لدمشق روح التسامح والحكمة. ومن هذا المزيج تشكلت منى واصف التي يعرفها الناس اليوم."
وهكذا تبقى منى واصف رمزًا للمرأة السورية والعربية التي تجاوزت حدود الفن، لتصبح جسرًا بين الثقافات والقلوب، وصوتًا صادقًا لبلد وُلدت فيه من مزيج الجبل والوادي، ومن روح دمشق التي لا تنطفئ.

إنجاز العمر
حصلت النجمة السورية القديرة منى واصف على جائزة الإنجاز مدى الحياة من حفل "Joy Awards" بالمملكة العربية السعودية، وسط احتفاء كبير من نجوم الفن في الوطن العربي، تكريمًا لمسيرتها الطويلة التي امتدت لأكثر من ستة عقود من العطاء والإبداع، والتي جعلتها رمزًا للفن السوري والعربي وواحدة من أبرز ممثلات جيلها في العالم العربي.
تألقت في عدد من المسرحيات الكبرى مثل "طرطوف" و"الإخوة كرامازوف" و"الزير سالم" و"البيت الصاخب"، وأظهرت قدرة استثنائية على الأداء المسرحي المتقن الذي جمع بين القوة التعبيرية والصدق الإنساني.
ومن المسرح انتقلت إلى السينما والتلفزيون، حيث تألقت في أكثر من 180 عملًا متنوعًا بين الدراما التاريخية والاجتماعية والكوميدية، لتصبح منى واصف أحد الأعمدة الأساسية في الدراما السورية والعربية. ومن أبرز أعمالها السينمائية فيلم "الرسالة" (1976) مع المخرج العالمي مصطفى العقاد، حيث جسدت شخصية هند بنت عتبة في أداءٍ خالد منحها شهرة عربية وعالمية واسعة، كما شاركت في أفلام "القلعة الخامسة" (1979) و"التقرير" (1986) و"البركان" (1989) و"قمر بني هاشم"، وغيرها من الأفلام التي أبرزت حضورها القوي على الشاشة الكبيرة.
أما في الدراما التلفزيونية، فقد تركت بصمتها في أعمال خالدة مثل "الزير سالم" (2000) الذي جسدت فيه شخصية الملكة جليلة ببراعة كبيرة جعلت منها رمزًا للمرأة القوية العاقلة، وكذلك مسلسلات "صلاح الدين الأيوبي" و"أبناء القهر" و"الفصول الأربعة" و"غزلان في غابة الذئاب" و"سقف العالم" و"الولادة من الخاصرة" و"الهيبة"، الذي قدمت فيه دور الأم الصلبة ناهد عمران، أحد أشهر أدوارها الحديثة التي أعادت تقديمها إلى جمهور جديد من الشباب في العالم العربي.
تميزت منى واصف بقدرتها على الجمع بين الصلابة والحنان في أدائها، فهي الأم التي تتحمل المصاعب، والمرأة التي تواجه القدر بإصرار، والملكة التي لا تفقد إنسانيتها، والمثقفة التي تحافظ على مبادئها رغم كل الظروف. وقد استطاعت منى واصف أن تقدم للدراما السورية والعربية نموذجًا فريدًا للمرأة العربية القوية التي تملك عقلًا راجحًا وقلبًا كبيرًا، وجسدت شخصيات تركت أثرًا عميقًا في ذاكرة المشاهدين عبر الأجيال.
وعلى امتداد مشوارها، لم تتوقف منى واصف عن التطور الفني، بل ظلت تؤمن أن العمر ليس عائقًا أمام الإبداع، بل هو مساحة جديدة للفهم والنضج. وقد عبرت أكثر من مرة عن تصالحها مع الزمن بقولها: "كل مرحلة من العمر جميلة إذا عرف الإنسان كيف يعيشها." لذلك لم تنسحب من الساحة، بل واصلت العمل حتى بعد الثمانين، محافظة على وهجها الفني وحضورها الطاغي في كل دور تؤديه.
وحصدت الفنانة الكبيرة خلال مسيرتها العديد من الجوائز والتكريمات التى تستحقها بجدارة .